حكاية مخيمات عرسال 


مدار اليوم – مها غزال

تتفاقم أزمة اللاجئين السوريين في لبنان مع تمادي الجيش اللبناني بانتهاك القوانين الدولية وحقوق الإنسان واصراره على اخفاء الحقائق، وطمس أي دليل يشير إلى جريمته ضد اللاجئين السوريين، وذلك بعد أن شن حملة عسكرية ضد اللاجئين السوريين في مخيمات عرسال، أسفرت عن مقتل ستة لاجئين سوريين بينهم طفلة، وإصابة وتشريد العديد من المدنيين بعد حرق خيمهم، وإهانة اللاجئين وعوائلهم والتعامل معهم بوحشية، واعتقال أكثر من 400 لاجئ، بينهم حوالي 70 شخصا تتجاوز أعمارهم 70 عام، قتل منهم عشرة لاجئين سوريين تحت التعذيب في سجون الجيش اللبناني.

اقتحام مخيمات عرسال

وفي 30 حزيران/يونيو اقتحم الجيش اللبناني منطقة عرسال بحجة القبض على ارهابيين داخل مخيم النور، وقال الجيش إن خمسة “انتحاريين” فجروا أنفسهم خلال عمليات دهم نفذتها وحدات من الجيش فجر يوم الجمعة 30 حزيران/يونيو، بمخيمات للاجئين السوريين في بلدة عرسال شمال شرقي البلاد.

وفي هذا السياق، ادعت الوكالة الوطنية للإعلام اللبنانية الرسمية أنه أثناء قيام الجيش بعملية تفتيش في مخيم النور أقدم “انتحاري” على تفجير نفسه بواسطة حزام ناسف أمام إحدى الدوريات المداهمة، مما أدى إلى مقتله وإصابة ثلاثة عسكريين بجروح غير خطيرة.

وأضافت أنه في وقت لاحق أقدم ثلاثة “انتحاريين” آخرون على تفجير أنفسهم من دون وقوع إصابات في صفوف العسكريين، مشيرة إلى أن قوات الجيش ضبطت أربع عبوات ناسفة معدة للتفجير، وعمل خبير عسكري على تفكيكها.

كما ذكرت الوكالة الوطنية أن أحد “الإرهابيين” قام بتفجير نفسه أثناء قيام قوة أخرى من الجيش بعملية تفتيش في مخيم القارية التابع للاجئين السوريين في المنطقة نفسها، وأشارت إلى أن “إرهابيا” آخر رمى قنبلة باتجاه إحدى الدوريات، مما أدى إلى إصابة أربعة عسكريين بجروح طفيفة.

ونفى لاجئون سورييون هذه الروايات التي لم يدعمها الجيش اللبناني بأي وقائع، لاسيما أنه لم يفصح عن هويه الإنتحاريين، وأكد اللاجئون أنهم سمعوا أصوات انفجارات خفيفة لا تعدوا كونها أصوات قنابل، فيما أكد لاجئين أخرين أن الجيش اللبناني كان يضرب الخيام بالقنابل اليدوية، دون أن يلاحظ إذا كان هناك أحد داخل الخيام، مما أدى إلى مقتل ستة لاجئين بينهم طفلة.

اعتقالات واسعة… ومقتل معتقلين تحت التعذيب

واتخذ الجيش اللبناني اجراءات صارمة بحق اللاجئين السوريين، أعادت إلى الأذهان ممارسات نظام الأسد ضد الشعب السوري، حيث أفرغ المخيمات من الرجال والشبان، وقام باعتقالهم بشكل جماعي، واذلالهم  تحت أنظار ذويهم وسكان بلدة عرسال، وانتشرت عدة صور توضح الطريقة التي تعامل بها الجيش مع اللاجئين، حيث قام باغلاق عيونهم واجبارهم على الانبطاح على الأرض في الأجواء الحارة، وكتب على أجسادهم عباراة خادشة للحياء.

وبعد يومين من حملة المداهمات تلك، وتحديدا في 2تموز/ يوليو، كشفت مصادر أهلية، أن رئيس بلدية عرسال اللبناني تلقى طلباً من الجيش اللبناني لاستلام جثث سبعة معتقلين سوريين هم “رضوان محمد العيسى، ومروان محمد العيسى، صفوان محمد العيسى، والممرض في مخيمات عرسال انس حسين الحسيكي، وهم من القصير، ونايف برو وهو بائع خضرة في مخيمات عرسال، وجهاد كنعان وهم من قارة، ومصطفى عبدالكريم عبسة، وخالد حسين المليص وهما من قارة”، بعد أن قتلوا تحت التعذيب.

وقالت المصادر إن جثث المعتقلين متواجدة على النحو التالي 4 جثث في مستشفيات بعلبك وثلاثة في زحلة، وهم ينحدرون بلدة القصير في ريف حمص الخاضعة اليوم لسيطرة “حزب الله” على الحدود اللبنانية، وبلدات قارة وفليطة في القلمون الغربي بريف دمشق وهي خاضعة أيضا لسيطرة “حزب الله” الذي ارتكب عام 2013 أبشع المجازر بحق أهلها.

مبررات الجيش اللبناني غير مقنعة

وبعد الحملة الاعلامية التي أدارها ناشطو مجتمع مدني سوريين ولبنانيين، اعترف الجيش اللبناني بمقتل عدد من اللاجئين الذين اعتقلهم من مخيمات عرسال.

وأصدرت مديرية التوجيه في قيادة الجيش اللبناني بيانا أكدت فيه أنه بعد أن “تم توقيف عددٍ من المطلوبين المتورّطين في التخطيط والإعداد للعمليات الإرهابية، ولدى الكشف الطبّي المعتاد الذي يجريه الجسم الطبّي في الجيش بإشراف القضاء المختص، تبيّن أنّ عدداً منهم يعاني مشاكل صحية مزمنة قد تفاعلت نتيجة الأحوال المناخية”.

وقال الجيش أنه “أخضع هؤلاء فور نقلهم للمعاينة الطبيّة في المستشفيات لمعالجتهم قبل بدء التحقيق معهم، لكن ظروفهم الصحية قد ساءت وأدّت إلى وفاة كل من السوريين: مصطفى عبد الكريم عبسه، خالد حسين المليص، أنس حسين الحسيكي، وعثمان مرعي المليص”.

وأضاف، “وضع الأطباء الشرعيّون تقاريرهم حول أسباب الوفاة وعلى الفور، وبادرت قيادة الجيش إلى إخضاع الموقوفين الآخرين للكشف الطبّي للتأكّد من عدم وجود حالات مماثلة تستدعي نقلها إلى المستشفيات، وللتأكّد عمّا إذا كان بعضهم قد تناول عقاقير سامّة تشكل خطراً على حياتهم”.

بالمقابل، لم يقتنع أهالي المعتقلين بالمبررات التي ساقها الجيش اللبناني، لاسيما أن أبنائهم لم يعانوا من أي أمراض قبل الاعتقال، مشيرين إلى أن أعمار القتلى تتراوح بين 19 عام و35 عام.

تسليم جثث المعتقلين

وقام الجيش بتسليم 4 جثث، ولدى وصولهم إلى مدخل عرسال، منعتهم المخابرات اللبنانية من الدخول، كما منعت 6 رجال كبار بالعمر كانوا بين المعتقلين وتم الافراج عنهم تتراوح اعمارهم بن 75 عام 85 عام، ولم تفصح المخابرات عن أماكنهم حتى الأن.
ومن بين الجثث التي تم تسليمها، جثة للشاب رضوان العيسى وهو معاق بترت ساقاه منذ عام 2013، قتله الجيش بطلق ناري في الرأس أثناء المداهمات، وسحب جثته معه، إلا أنه عاد وسلم جثته وهي عبارة عن أشلاء، ويدعي أنه “الإرهابي الذي فجر نفسه.
وتسود حالة رعب شديدة في المخيم، وويرفض الأهالي الادلاء بشهادتهم علنا خوفا على أبنائهم المعتقلين، لاسيما بعد مغادرة عشرات العائلات المخيم، ومنها من اختار المبيت بالشوارع على أن يتعرض لاذلال الجيش اللبناني.

الجيش اللبناني يسطو على الأدلة الجنائية

وبعد البيان غير المقنع، الذي صدر عن الجيش اللبناني، بشأن وفاة عدد من الموقوفين السوريين في عرسال لأسباب صحية، تقدمت المحامية ديالا شحادة بطلب، الخميس في 6 تموز، بموجب وكالات قضائية عن ذوي كل من المواطنين السوريين المتوفّين مصطفى عبدالكريم العبسي، وخالد حسين المليص، وأنس حسين الحسيكي، لاجراء كشف طبي على جثث هؤلاء. وقد استجاب قاضي الأمور المستعجلة في زحلة أنطوان أبي زيد لهذا الطلب وأصدر قراراً قضائياً معجلاً نافذاً. لكن تنفيذ القرار، في نقل عينات من الجثث إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت، لم يكن بالسهولة المتوقعة، على ما روت شحادة على صفحتها في فايسبوك:

“أكتب هذا النصّ المُسهَب بتمهّل منذ الساعة الثالثة فجراً، وأنا جالسة في قسم الطوارئ في مستشفى أوتيل ديو في بيروت. لا تقلقوا. حالتي الجسدية ممتازة، رغم بعض الإنهاك وكثير من الخيبة. وحالتي النفسية أفضل الآن بعد انسحاب آخر عناصر مخابرات الجيش اللبناني المدججين بالسلاح من صرح المستشفى قبل أربع ساعات. حالتي النفسية أفضل لأنني، ومساعدتي الإدارية (التي وفَّرت لها إدارة المشفى المحترم مكاناً للنوم)، كنّا (ولعلّنا لم نزل، بشكلٍ ما) شبه محاصرتين في المستشفى ومخابرات الجيش تتربّص بِنَا على أبوابه الداخلية والخارجية. تتربص بِنَا لأننا، بكل بساطة، شاركنا في تنفيذ قرار قضائي معجّل نافذ على أصله صادر عن قاضي الأمور المستعجلة في زحلة الرئيس أنطوان أبي زيد. أجل. يا لسوء نيّتنا.

القرار المعجّل والمحقّ، الذي استجاب فوراً لطلب تقدم به مكتبنا أمس بموجب وكالات قضائية عن ذوي كل من المواطنين السوريين المتوفّين مصطفى عبدالكريم العبسي، وخالد حسين المليص، وأنس حسين الحسيكي، قضى بتكليف طبيب شرعي محلّف، الجرّاح المخضرم ريمون خزاقة، باجراء كشف طبي على جثث هؤلاء المودعة في برادات مستشفى زحلة الحكومي، وذلك “لبيان سبب وفاة” أصحابها. طلبنا الكشف الطبي لأن التقارير الطبية الشرعية التي أجريت لهؤلاء بتاريخ ٢/٧/٢٠١٧، أي بعد أقل من ٤٨ ساعة على توقيفهم احتياطياً ضمن المداهمات الواسعة التي استهدفت مخيمات اللاجئين السوريين وبيوتهم في عرسال قبل أسبوع، والتي استحصلنا على نسخ عنها أمس فقط بإذن من النيابة العامة العسكرية، خلصت إلى أن أسباب الوفاة طبيعية مئة في المئة: جلطة قلبية، وجرحة قلبية، وجلطة دماغية، و”لا آثار للعنف”. هكذا. تقرير طبي شرعي اكتفى بصفحة ونصف عن كل وفية.

أعتقد أنه من قبيل المعجزة الإلهية أن يموت ثلاثة أشخاص أصحاء بشهادة أسرهم ومعارفهم (بينهم ممرض تخدير لا يسكن أصلاً في المخيمات) في غضون ٤٨ ساعة من توقيفهم احتياطياً، وفي مكان واحد، ومن قبل جهة واحدة، جميعهم لأسباب “طبيعية”. ولا أعتقد أن ثمة من يُؤْمِن بالمعجزات بين اللاجئين السوريين على أيّ حال. ولكننا كنّا لم نزلْ، حتى الأمس، نؤمن بأن الموضوعية والحقيقة ضالتا العدالة وبأن سيادة القانون صمّام الأمن والأمان. فلم نستعجل ولَم نتكهن ولَم نتحامل، وإنما طلبنا من القضاء منح ذوي الجثث الحق بمعرفة الحقيقة. وهكذا كان.

المهم. قام الطبيب المكلَّف من قضاء العجلة في زحلة بمهمته الأولية في برادات مستشفى زحلة الحكومي. كشف على الجثث، وقام بتصويرها، واستخرج عيّناتٍ منها، ووضّبها أصولاً، وكلَّف موظفاً طبياً بإيصالها معنا إلى مستشفى أوتيل ديو في بيروت. كلّ ذلك وأنا أشعر بأن لبنان لم يزل، نوعاً ما، إلى حدّ ما، بخير. فها هو القضاء يستجيب بسرعة في قضية حسّاسة أبكت اللاجئين السوريين في عرسال، وأمرَ رئيس الحكومة باجراء تحقيق جدي حولها، وضجّ الرأي العام المحلي والدولي بها قبل أيام. وَيَا لسذاجتنا.

قبل قليل من وصولنا مع الموظف المكلَّف والعينات الموضبة إلى بيروت نزولاً من زحلة، اتصل بِنَا الطبيب المكلَّف. كان منفعلاً وطلب منا العودة بالعينات فوراً. قال إن رئيس النيابة العامة العسكرية القاضي صقر صقر خابره وأمره بعدم السماح بوصول العينات إلى مستشفى أوتيل ديو وبإعادتها لأنها، النيابة العامة العسكرية، هي المخوّلة بمنح إذنٍ كهذا. هاتفنا القاضي أبي زيد وأبلغناه بما حصل فأجاب بأن قراره قانوني ويجدر الاستمرار في تنفيذه وبلّغ الموظف الذي معنا بذلك مباشرة على الهاتف. واصلنا طريقنا فاتصلت بالموظف مخابرات الجيش وطلب الشاب اللبق على الهاتف اسمي ورقم هاتفي وسألني: “إنتِ من وين؟”. أجبته: “أنا محامية لبنانية مسجَّلة لدى نقابة بيروت”. طلب أسماء فريق عملي فامتنعت عن تزويده بها. أجاب بأن قائد الشرطة العسكرية في البقاع العميد عازار سيتصل بي على رقمي. لم يتصل بي أحد وإنما اتصلت إدارة مستشفى زحلة الحكومي بالموظف الذي معنا وطلبت إليه “التوقف في مكانه”. توالت الاتصالات المقلقة على الموظف الذي استقال في النهاية من مهمته القانونية وطلب النزول من السيارة وسط أوتوستراد خطر.

وصلنا إلى مستشفى أوتيل ديو نحو الساعة الحادية عشرة ليلاً. أبرزتُ لإدارة المستشفى أوراقي القضائية والرسمية والثبوتية وباشرنا الاجراءات الإدارية لحفظ العينات في البرادات. نقلنا العينات الموضّبة إلى غرفة تسجيل الدخول وانتظرت مساعدتي هناك ريثما أتابع الاجراءات الروتينية. فجأة، ظهر شابان واثقان بنفسيهما وسألاني: أنتِ المحامية الفلانية؟ أين هي العينات؟ سألتهم عن صفتهما. أجابا: نحن مخابرات الجيش. طلبت منهما إثبات صفتهما فأبرزا، عن بعد، بطاقة لم يسمحا لي بالتمعن فيها وقال الأقل لباقة بينهما بتذاكٍ: ألا ترين الأرزة الخضراء؟ وطلب الأكثر لباقة الاجتماع بي على انفراد فرافقتنا موظفة إدارية إلى غرفة مغلقة حيث أطلعته على القرار القضائي الذي بحوزتي. أبلغني بأنهم مكلّفون بـ”أخذ العينات بأي طريقة”. أجبت: لديّ قرار قضائي يعلو على أي قرار، فردّ بأن قرار مخابرات الجيش هو الذي يعلو على أيّ قرار.

مرّت ساعة مشحونة واصلتُ فيها الامتناع عن الإفصاح عن مكان وجود العينات وتسليمها من دون قرار قضائي رسمي. تعرّض طبيب وموظفة في هذه الأثناء لترهيبٍ وتهويل بسبب إصرارهما (الصادق) بأن المستشفى لم يتسلَّم أي عينات. وسط احتقان مقنّع بتمالك النفس راح رجال مخابرات الجيش الذين تضاعف عددهم حتى زاد عن العشرة عناصر بالزي المدني داخل قسم الطوارئ يجرون اتصالاتهم ويلاحقون خطواتي، ومثلهم فعلت. هاتفتُ محامين وحقوقيين وناشطين ورجال أمن وإعلاميين. كان القاضي أبي زيد قد أغلق هاتفه، على ما يبدو تجنباً لأي ضغوط. في النهاية هاتفتُ المدعي العام التمييزي الرئيس سمير حمود الذي طلب إليّ تسليم العينات لمخابرات الجيش لأن القضاء العسكري، لا قضاء العجلة، هو المخول باجراء تحقيقاتٍ كهذه، قال. طلبتُ إليه أن يأمر بحفظها في برادات أوتيل ديو مؤقتاً كي لا تفسد. أجاب بأنه سيتمّ حفظها في المستشفى العسكري.

نزولاً عند طلب المدعي العام التمييزي وافقتُ على تسليم العينات طالبةً من الطبيب زغبي، المدير المسؤول عن قسم الطوارئ، أن يشهد على عملية التسلّم والتسليم التي قمتُ بتوثيقها بهاتفي وسط اعتراض عنيف من عناصر مخابرات الجيش. في هذه الأثناء تم التنبه إلى مساعدتي فقام العنصر الأقل لباقة المذكور سابقاً بتصويرها بهاتفه واستفزازها بتصرفاتٍ سخيفة. طلب إليّ عنصر طويل القامة وصل حديثاً وكان الأكثر عدوانية أن “أحترمَ نفسي وإلا”، وذلك بعدما كنت قد سلمت العينات بالفعل. اجتمع بعدها عناصر عدة مع الدكتور زغيب في غرفة ضيقة لنحو نصف ساعة ومدّ أحدهم رأسه منها في لحظةٍ وصرخ بي مهدداً أن أبتعدَ عن الباب.

كل ذلك فيما كانت التصرفات العدوانية ترهب فريق المستشفى وروّاد قسم الطوارئ، بمن فيهم موظفة تجادلت غير مرة بغضب مع العناصر. احتضن الفريق مساعدتي في غرفة داخلية بعدما راح أحد العناصر يلاحقها حتى إلى باب دورة المياه. رحل بعض العناصر بالعينات وبقي عدد لا بأس به منتشراً لأكثر من ساعتين داخل أروقة المستشفى وعلى أبوابه الداخلية والخارجية كالمتربصين بِنَا، مساعدتي وأنا. احتضننا فريق المستشفى ونصحونا بعدم المغادرة. اتصلتُ بنقيب المحامين في بيروت وشرحتُ له الموقف وطلبتُ الحماية فأجابني بأنه سيهاتف الرئيس صقر في الصباح. استمرّ التربص حتى نحو الساعة الثالثة صباحاً حين تنبهت إلى وجود آلية عسكرية وشابين مدججين بالسلاح في صرح المستشفى أمام بابها الداخلي. قمتُ بتصويرهم بهاتفي فدنا مني عنصر ثالث مدني بسرعة وطلب مني تسليم هاتفي. ولما امتعنت، قال لي الشاب الذي بالكاد تجاوز العشرين: “إذا محامية أنا فيني إذا بدّي إستغني عن حصانتك”. فقدتُ أعصابي وصرختُ بكل طاقتي بعباراتٍ أجدها الآن واهية وساذجة، على وزن: “هيدا بلد بيحكمه القانون مش واحد حامل رشاش”. انسحبت العناصر الباقية لكننا بقينا في المستشفى ولَم نزل حتى الآن.

“طلع النهار. جلستُ في الخارج أشربُ القهوة وأدخّن وأفكّر. متى أصبح المواطنون اللبنانيون ومخابرات الجيش اللبناني فريقين لا يثقان الواحد بالآخر؟ كان رواد المستشفى وفريقه ينظرون إلى المجموعة المداهمة لا نظرة مواطنٍ لمن يحفظ أمنه بإخلاص، وإنما نظرة توجّسٍ واستنكار. وأفكّر، أنا التي اخترتُ العودة قبل أربعة أعوام إلى وطني الذي أحبّ، كيف صار لبنان الذي صاغ بمفرده مع ثلاث دولٍ أخرى، فقط، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان قبل ستة عقود، لبنان اليوم، الذي، ليس لبنان المواطنين، وإنما لبنان الأجهزة الأمنية”.

تهديدات مباشرة ومبطنة 

وكشف رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري، بأنه تلقى صباح الجمعة في 7 تموز، رسالة تهديد، وهي عبارة عن حقيبة تحتوي على رصاص قابل للاستخدام، وتم إرسالها له عبر شرطي بلدي، ويقول الحجيري “إنه في البداية لم تُجر فحوصات شرعية، ولم يكن هناك أي جلبة بهذا الشأن، وفيما بعد بدأ الإشكال، تسلمنا أربع جثث، تم دفنها بدون اجراء فحوصات شرعية، وهناك أربع جثث أخرى موجودة في أحد مستشفيات زحلة، لم نتسلمها لأن الأهالي يريدون اجراء فحوصات شرعية لمعرفة أسباب الوفاة”.

يضيف: “ما قمت به هو أنني استلمت الجثث بالطريقة القانونية. ولا نريد تحميل الموضوع أي أبعاد، ولا علاقة لعرسال بهذا الموضوع. نحن نريد الأمن والأمان. وقد استلمنا الجثث لأن أهالي المتوفّين لا يستطيعون الخروج من عرسال. لذلك، أرسلنا سيارة لنقل الجثث، وليس بإمكاننا منع الأهالي من دفن الجثث. ولم يكن بإمكاننا أن نمنعهم من تصوير الجثث. اقتصر دورنا على تسليم الجثث للأهالي. ولو رفضوا ذلك كنا امتنعنا عن نقلها. فليس باستطاعتنا التأثير على أي شخص”.

كما تعرض أحد الناشطين من اللاجئين السوريين الذين حرصوا على نقل الحقائق من داخل المخيمات التي تم اقتحامها بالصور والفيديوها، إلى تهديدات بالإعتقال، كما تم تحذير اللاجئين السوريين من الاقتراب منه أو التعامل معه، هذا بعد أن كشف خلال فيديو مصور حقيقة اقتحام الجيش لخيمة الطفلة التي قتلت أثناء اقتحام مخيم النور، وبين أثار سلاسل الدبابة على التراب بالقرب من الخيمة، وأثار تهديم الخيمة، ولم يكن هناك أي أثر لشظايا أو احتراق أو تفجير، وهو ما ينفي رواية الجيش بأنها قتلت بعد تفجير الانتحاري.

في اليوم التالي لنشر الفيديو، لاحظ اللاجئين السوريين قدوم مالك الأرض التي أقيم عليها المخيم برفقة سيارة شحن كبيرة تحمل كمية من الحجار تم وضعها في مكان الخيمة، واخفاء آثار سلاسل الدبابة، وحاول عدد من اللاجئين منعه من اخفاء أثار الجريمة، إلا أنه رفض وهددهم بالطرد وازالة المخيم بشكل كامل، وبعد انتهائة قدمت سيارة جيب سوداء وتحدث السائقها مع مالك الأرض، ومنحه ظرف مختوم وغادر.

وصدر قرار من مجلس نقابة محامي بيروت بمنع المحامية ديلا شحادة من الظهور الإعلامي، لحين اتخاذ موقف واصدار قرار من نقيب المحامين في بيروت الأستاذ أنطونيو هاشم.

وعملت أقنية المخابرات اللبنانية على التواصل مع بعض الناشطين، ودفعهم لتخفيف الحملة الإعلامية المثارة ضدهم مقابل تخفيف الضغط على اللاجئين، كما دفعت عدة أشخاص لرفع دعاوي ضد ناشطين سوريين في لبنان.

عودة الاعتقالات مجددا

وفي يوم 8 تموز عادت الإعتقالات مجددا من قبل الجيش اللبناني للاجئين السوريين في مخيمات بعلبك بلدة بريتال، واعتقل الجيش حوالي 50 شاب من اللاجئين تحت ذريعة أنهم لا يملكون أوراق ثبوتية، مع العلم أن السلطات اللبنانية لا تسمح للأمم المتحدة بمنح اللاجئين السوريين أوراق رسمية، في حين أن معظم اللاجئين فروا من ويلات الحرب في مدنهم وبلداتهم ولم يستطيعوا اخراج أوراقهم الثبوتية من منازلهم.

الخاتمة 

مع تمادي الجيش اللبناني في جريمته ضد اللاجئين السوريين، يزداد القلق على مصير أكثر من مليون ونصف لاجئ سوري في لبنان، يعيشون وسط أسوء الظروف، لاسيما مع اتخاذ الجيش من محاربة الارهاب ذريعة لانتهاك حقوق الإنسان، مع أن محاربة الارهاب يجب تهدف إلى حماية حقوق الإنسان لا إنتهاكها.

ويتضاعف القلقل، من أن هذه الحملة الشرسة ضد اللاجئين السوريين، جاءت بعد وقت قصير من زيارة قائد القيادة الاميركية الوسطى جوزيف فوتيل إلى جرود عرسال، وهو ما يشير إلى تعزيز الدور العسكري الأميركي في لبنان، لا سيما بعد أن كشفت مصادر مطلعة عن أن الجيش اللبناني، سيتلقى مزيداً من الأسلحة النوعية في الأيام المقبلة، كطيران قتالي تكتيكي، إذ سيحصل على مزيد من طائرات سوبر توكانو، لاستهداف “داعش” في جرود عرسال.

وقالت المصادر حينها، إن الجيش يستعد  لشن عملية إستباقية، بهدف منع أي محاولات قد يلجأ إليها التنظيم لشن هجمات على مواقع الجيش، أو ضد أهداف أخرى في لبنان، بغية تخفيف الضغط عن نفسه، والبحث عن متنفس جغرافي، خارج نطاق الحصار المفروض عليه في تلك الجرود، وتشدد واشنطن على أنه بعد طرد “داعش” من أي منطقة، يتوجب من الجيش اللبناني أن يستلّم بنفسه زمام الأمور، ويسيطر على تلك المناطق ويسدّ الثغرات، وليس “حزب الله”.

وفي حين تتلاقى هذه الرؤية مع مصالح اللاجئين السوريين الذين يتوقون للتخلص من تنظيم “داعش” وازاحة “حزب الله” من مناطقهم، إذا أخذ الجيش في عين الإعتبار حماية اللاجئين السوريين أولاً، يبتعد الجيش اللبناني بممارسته تلك عن جهور أهداف “محاربة الارهاب”، ويعزز فكرة أنه مخترق بدرجة كبيرة من قبل “حزب الله” وبالتالي فإنه لا يستطيع تأدية هذه المهمة.

حكاية مخيمات عرسال 




المصدر