سيرة ذاتية لمواطن صالح

9 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
4 minutes

نجيب كيالي

يمكن أن أُبدِّل وجهي كما تبدِّل عـارضاتُ الأزياء ملابسهن، فأضعَ مكانَه وجه قطٍّ أو أرنب أو فأر، مادام هذا الوجه لا يعجب السادة، ولتسهيل العملية ركَّبتُ سحَّابًا على محيطه؛ سحابًا مُزيَّتًا يكرج كرجًا.

يمكن، إذا جاءتني الأوامر، أن أخلـعَ الجاكيت، فالقميص الداخلي، بل حتى… وأمشي على العجين، فلا “ألخبطه” كما يقول إخوتنا المصريون. قد يقولون لي: ازحفْ مثلَ الدودة، فأزحف. ارقصْ مثل مدام (فيفي)، فأرقص. قلِّدْ نومةَ العجوز ونطَّات السعدان، أقلِّدْ.. أقلِّدْ.

يمكن أن يقال لي:

– افتحْ فمَك لنقيسَ طولَ لسانك.

أفتحُهُ وأمري لله، وبعد القياس أسمعُ صوتًا غليظًا يقول:

– لسانك مخالف للمواصفات.. أطول من المسموح به. سنقطع منه القسمَ الزائد.

أتردد قليلًا في تقديم لساني للمقص، لكنني سرعان ما أقول في نفسي:

(الأشياء الطويلة مُتعِبة، ونحن في عصر النواعم والنونو والرشاقة، كما أنَّ قِصَرَ اللسان سينفعني أمام زوجتي، وحماتي، وأمام الموظف الذي لم يعد يخجل من طلب الرشوة، ومع سائق التكسي الذي يريد زيادةً على العدَّاد، فأتشاجر معه دون جدوى!)

ولأنني مطيع أمام الأسياد في الداخل أصبحتُ مطيعًا -أيضًا- أمام الأسياد في الخارج، فيمكن مثلًا أن يسألني لئيم من هؤلاء، بعد أن يرفسني بجزمته، ويدحرجني على البلاط مثلَ علبة (كولا) فارغة:

– ولاه.. ما رأيك بجزمتي؟

فأقول:

– يا سلام.. جزمتُكم -دام عزها-  مساميرُها لؤلؤ ومرجان، ساقُها أحلى من أعناق الصبايا، دَوْسُها على رقابنا- ياااه- ألطفُ من تلاقي رمشين.

يمكن أن يقول اللئيم أيضًا:

– ولاه.. أبوك أفسد تربيتك. علَّمكَ -والعياذ بالله- أمورًا بائخة جدًا كحب الوطن، والعيشِ برأس مرفوع.

ما إنْ يُتِمَّ كلامَهُ حتى ألبسَ حذاءَ الرياضة، وأذهبَ جريًا إلى المقبرة، أقف على قبر أبي، أعاتبه وأنا ألهث:

– أهكذا يا حاج نوري جعلتَني متخلفًا إلى هذا الحد؟! آخ.. ماذا أفعلُ بك، وأنت تحت التراب؟!

أرمي الشاهدة على قبر أبي، وأركضُ بالحذاء الرياضي الرشيق إلى مهرجان التسوق، فأشتري من مخزن فاخر أبًا جديدًا ملفوفًا بالنايلون، والشرائط الملونة ليربيني تربيةً مختلفة يرضى عنها صاحبُ الجزمة الحبيب.

يمكن ويمكن ويمكن…

ومؤخرًا طوَّرتُ حالةَ الطاعة عندي.. نعم طوَّرتُها، والحمد لله، فانتقلتُ من رتبة (مطيع) إلى رتبة (مطيع جدًا). كيف؟ هذا سر، لكنني سأبوح لكم به حبًا بست الحُسْن والدلال (الطاعة) تسلم لي عيناها: استعنتُ أولًا بالحاستين السادسة والسابعة، وبالإضافة إليهما ركَّبتُ لاقطًا حديثًا داخلَ قرعةِ رأسي. هذا كلُّه لألتقط الإشارات من قلوب السادة، قبل أن تصل إلى أفواههم؛ أي أنني صرتُ أفهمها على الطاير، وحتى قبل أن تطير، فانبسطوا مني، وقالوا: (يا مضروب صرتَ الآن مواطنًا صالحًا).. (برافو.. برافو).

وسلَّموني إلى موظف عنده جهاز (فوتو كوبي) ليقومَ بنسخي، ومن ثمَّ سأُوزَّعُ على أنحاء البلاد اليعربية الرشيدة، ليقتدي بي مواطنوها الأعزاء.

أخيرًا.. قد تتساءلون: كيف أصبحتُ مطيعًا ظريفًا إلى هذا الحد؟

الجواب تجدونه هناك في المعهد العصري للتربية الرفيعة، وفنون التهذيب الذي هبطتُ على درجاته ذاتَ يوم، وخرجتُ منه أحمل شهادة حسن سلوك، طوابعُها الزرقاء النيليَّة ملصقةٌ على جسدي!.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]