معرض إيميل بوبوف في صالة “راكورسي” بصوفيا صرخة الفارين من جحيم التعسف والحروب


تهامة الجندي

إلى أولئك المدنيين العزّل، الفارين من جحيم التعسف والحروب في بلادهم، المهددين بأخطار العبور إلى الضفاف الآمنة، المشردين في أصقاع الأرض بحثًا عن طوق النجاة، إلى ملايين البشر المنسيين في المخيّمات ودول الشتات، يهدي النحات البلغاري إيميل بوبوف معرضه الجديد “الذئبة” الذي أقامته صالة “راكورسي” (وجهات نظر) في العاصمة البلغارية صوفيا، احتفاء بيوم اللاجئ العالمي.

إيميل بوبوف واحد من أهم وأشهر النحاتين البلغار، وُلد في مدينة كوستانديل عام 1951، تخرج في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1975، وفيها حصل على لقب بروفسور عام 1992، بعدها بعامين أقام معرضه الفردي الأول، وفي سجل أعماله عدد كبير من المعارض الفردية والجماعية إلى جانب الكثير من المشاركات في الملتقيات الفنية المحلية والدولية. وهو يشتهر بتطويعه لمختلف خامات النحت، وتشتهر منحوتاته بتشكيلاتها الحرة.

ما إن تدخل معرض بوبوف في الصالة الصغيرة الأنيقة حتى تطل عليك منحوتاته بأحجامها المتباينة، مشغولة بخامتين أساسيتين: البرونز والخزف، وموزعة في ثلاث حلقات، تحت ثلاثة عناوين هي: “الأبرياء” و”الانتظار” و”الصرخة“، وجميعها تتمحور حول منحوتة “الذئبة” التي تحظى بالكتلة النحتية الأكبر حجمًا، وتحتل واجهة الفضاء التشكيلي، وتلح عليكَ بالسؤال حول علاقتها بموضوع اللجوء.

ذئبة بوبوف، هي مقاربة معاصرة للمنحوتة البرونزية الشهيرة “لوبا” (75×114 سم) المعروضة في متحف كابيتوليني في روما، وهي عبارة عن ذئبة تُرضع الأخويين رومولوس ورموس، وتجسد مفصلًا رئيسًا من أسطورة تأسيس العاصمة الإيطالية في القرن السادس قبل الميلاد، وبحسب الأسطورة فإن “أموليوس” أزاح والد التوأمَين عن العرش، وألقى بهما في نهر التيبر، حيث أنقذتهما الذئبة من الغرق، وحمتهما من الموت جوعًا، ليجدهما الراعي “فاستولوس” ويقوم بتربيتهما، وحين كبر الشقيقان قررا تشييد روما، واختلفا في ما بينهما على موقع بناء المدينة، فقتل رومولوس أخيه، وأكمل مهمة البناء بمفرده.

وبذلك تغدو “ذئبة كابيتولينيا” في المعرض رمزًا من رموز الأمومة الحانية، المدافعة عن الحياة، في مواجهة ذهنية الإقصاء والقتل التي تحصد أرواح الأبرياء وتجبرهم على الهجرة القسرية. “إن عصرنا الراهن بحروبه وبطشه، حوّل ملايين البشر من أبناء لوبا إلى ضحايا” -يقول بوبوف- ويضيف أن فكرة معرضه بدأت تتخلق في رأسه منذ أن قرأ قصيدة الشاعر البلغاري كوستانتين بافلوف، وفيها يكتب: “لو أن الذئبة قُتلت حينها، لتغير تاريخ البشرية جمعاء”.

على يمين تمثال “الذئبة” ويسارها تتموضع منحوتات مجموعتَي “الانتظار” و”الصرخة”، ومعظمها صغير الحجم، والمجموعة الأولى تحتفي بالأمومة المقدّسة، واهبة الحياة، حيث نلحظ التكوينات الأنثوية التي تحيلنا إلى تشكيلات الإلهة الأم في الحضارات القديمة، أجساد عارية في وضعية الجلوس أو الوقوف، وأثداء كبيرة وبطون منتفخة، يتخلق البشر داخلها في انتظار لحظة الاكتمال، تتبعها مجموعة “الصرخة” التي تصور آلام المخاض والولادة، وفيها تبرز منحوتات الأخوَين رومولوس ورموس، وهما في وضع الرضاعة، وتتكرر الذئبة في أكثر من منحوتة.

في حديثه لـ “جيرون” ذكر بوبوف أنه ينحاز تمامًا إلى مرحلة الأمومة في تاريخ البشرية، لأنها تقوم على فلسفة الخلق وحماية الحياة، وأنه يستلهم الفنون القديمة لطاقتها التعبيرية الكامنة، ويحاول أن يمد الجسور الثقافية بينها والفنون المعاصرة.

ينتهي المعرض بركن “الأبرياء“، وهو مجموعة كبيرة من الأيدي المرفوعة نحو السماء، موزعة على حامل أو داخل أوعية دائرية، كأنها دوامات البحر، ترتسم على انحناءاتها مأساة التهجير القسري والرجاء الخائب بالنجاة. اللافت -في جميع المنحوتات التي يقدمها بوبوف- أنه لا يأبه بالتجسيد الواقعي للتفاصيل، بقدر ما يلتقط كائناته ومفرداته، وهي في حالة الفعل، مركزًا جهده على إبراز حركتها في الفراغ، والطاقة التعبيرية الناجمة عن أدائها، ومن خلالها يحاول التعبير عن موقفه التضامني الكامل مع ضحايا التعسف والحروب.

سألتُ بوبوف: ما الذي يجعله يفرد معرضه لقضية اللاجئين؟ قال: هذه القضية تطل علينا -يوميًا- من وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، هناك أكثر من ستين مليون إنسان يبحثون عن الأمان والمأوى، رقم يعادل أضعاف عدد سكان بلد مثل بلغاريا، هذه مأساة إنسانية عالمية، ويؤسفني أنه يتم تداولها فقط على شكل إحصاءات وأرقام، وكأن هؤلاء الضحايا هم مجرد سلع. لا أستطيع أن أفهم تجاهل العالم لهذه المأساة المليونية، مقارنة بالموارد الاقتصادية والتكنولوجية التي يمتلكها. أحاول عبر التشكيلات والرموز أن أجد جوابًا لهذا الخلل، وأعتقد أن قوة الفن لم تلعب دورها المطلوب بعد، لإغناء الحس الإنساني في أعماقنا إزاء هذه التراجيديا.

* ما هي أسباب هذه المأساة، وما هو الحل من وجهة نظرك، ولا سيّما في ما يتعلق بالوضع السوري؟

** لست رجل سياسة، ولا أملك معلومات كافية عن حقيقة ما يجري، أنا نحات وأعتقد أن مصدر مأساة اللجوء -بشكل عام- يكمن في النزاعات والحروب والفقر، في وحشية المصالح لاقتسام الأراضي والثروات على حساب البشر. والمؤسف أننا ننشغل بأعداد المهجرين، ونِسب توزيعهم على الدول الأوروبية، بدل أن نبحث عن الحلول السلمية للقضاء على الأسباب التي أدت إلى نزوحهم، هؤلاء يحق لهم أن ينعموا بحياة آمنة وكريمة في بلدانهم، وعلى هذا الحق ينبغي أن ينصب جهدنا.

* ماذا عن إعجابك المعروف بشخصية غاندي؟

** أقدّر غاندي كثيرًا، هو القائد الوحيد في القرن العشرين الذي اعتمد الثقافة والقيم الروحية، في أكثر الأوضاع السياسية تأزمًا، لطرد الاحتلال البريطاني من بلده، من دون أن يطلق رصاصة واحدة. بالنسبة لي لا طريق آخر أمامنا سوى المقاومة السلمية لحل مشكلاتنا، ولا بديل إلا بالتعايش وقبول الآخر كما هو، بدلًا من كسره ليصبح شبيهًا بنا. من جهتي أؤمن أن الإنسان ميّال بطبعه نحو التعايش والاندماج الجميل، ولديه ما يكفي من الطاقة الكامنة لتحقيق ذلك.

الجدير بالذكر أن معرض إيميل بوبوف أُقيم في صالة “راكورسي” في صوفيا بين 19 حزيران و4 تموز 2017.




المصدر