(الجزيرة) والنظام العربي: تناقض جوهري أم ثانوي؟


محمد خليفة

هل التناقض والصراع حتميان وأزليان، بين النظام العربي والإعلام الحر؟

السؤال يطرح نفسه مع شراسة الحملة على قناة (الجزيرة) من دول الحصار المفروض على دولة قطر، ولا سيّما أن الحملة ليست جديدة، لا على القناة، ولا على وسائل الإعلام العربية عامة، بل تأتي في سياق تاريخي من المواجهة، بين الصحافة منذ نشوئها وأنظمة الاستبداد العربية العريقة، كما تأتي في سياق اصطدام (الجزيرة) بالأنظمة العربية كافةً، وبعض الدول الإقليمية والأجنبية أيضًا.

ولا بدّ للمراقب المستقل أن يسجل لدول الحصار موقفها “المبدئي” الثابت من (الجزيرة)، المتسم بالعداء المستمر الذي لم تحِد عنه منذ عام 1996.. عداء تغار منه قضايا قومية وإسلامية مقدسة، يفترض أنها أجلّ وأعظم!

ما يسترعي الانتباه، في ملف الأزمة الخليجية، أن العداء لقناة (الجزيرة) هو السبب الرئيس، والعنصر الأشد وضوحًا بين الأسباب الثلاثة عشر المزعومة التي حركت حملة الدول الأربع على قطر. وهذه سابقة فريدة في تاريخ الأزمات الدولية، فالاتحاد السوفياتي في عز جبروته لم يفجّر أزمة كهذه مع الغرب، بسبب إذاعاته الموجهة لشعوبه (راديو أوروبا الحرة، مثلًا) لتحريضها ضده. والغريب أيضًا أن العداء للجزيرة بلغ مستوًى غير مسبوق، أفرز محورًا عربيًا وإقليميًا يضم مصر والسعودية والإمارات والبحرين، على الرغم من وفرة النزاعات بين مصر والسعودية، ولكن العداء للقناة تفوّق عليها فالتقتا في خندقه، ودفع الدول الأربع إلى إنشاء تحالف سياسي وأمني واقتصادي، في مواجهة “خصم خطير” يدعى (قناة الجزيرة)!

ويتسع المحور لحلفاء غير معلنين لأسباب مفهومة، كنظام الأسد و”إسرائيل” اللذَين يشاطران الآخرين عداوتهم المضمرة والمعلنة للجزيرة، وعلى أي حال فمن دونهما لا تكتمل هيئة أركان الحرب الشرسة على قطر. وبلغت وقاحة نتنياهو رئيس حكومة اليمين المتطرف في “إسرائيل” أن يعقد اجتماعًا مع كبار مسؤولي الأمن، لبحث تطهير البلاد من مراسلي الجزيرة أسوة بالدول العربية الأربع، استجابةً لمطلب تقدم به عتاة اليمين الصهيوني، وتعزيزًا لتناغم مواقف الحلف الإقليمي الجديد. ولو أن إدارة بوش الابن في الحكم الآن؛ لانضمت علانية إلى الحِلف، وزجت بقواها في “الحرب”، وهي الإدارة التي هددت عام 2003 بقصف مكاتب القناة في الدوحة، ردًا على تغطيتها لغزو العراق ومجازره!

وبناء على ذلك المعيار المشتق من التناقض الجوهري بين السلطة الاستبدادية والإعلام الحر، تجدر إضافة إيران وروسيا إلى المحور، كحليفين موضوعيين، وإن كان ظاهر موقفيهما من الأزمة يشي بعكس ذلك، لأن ما يقوله قادة الدولتَين مجرد اصطياد في مياه عكرة.

على أي حال، تنبغي العودة بالذاكرة إلى انطلاق القناة عام 1996، لنلاحظ أن التناقض برز بينها وبين الإعلام العربي الداجن، بكل أشكاله منذ اليوم الأول، إذ اتضح فورًا منهجها الذي يكسر المحرمات والخطوط الحمر التي فرضها “النظام العربي” بقوة السلطة وسلطة القوة على وسائل الإعلام؛ فحدد لهما المباح والمحظور في التعبير والنقد كتابة وشفاهة وصورة. ولذلك كان من البدهيّ أن تتسم ردات فعل الدول العربية على (الجزيرة) بالسلبية والاستنكار، ومعاملتها كظاهرة مريبة، ومؤسسة خارجة على القانون، تنتهك الخطوط الحمر والمحرمات. وما لبثت الحملة أن ذهبت إلى التخوين، بتصنيفها في خانة المؤامرات الصهيونية والإمبريالية على الأمن القومي العربي!

وتنافست أنظمة الأردن والسعودية والعراق واليمن وليبيا، في شن حملات شعواء عليها تلميحًا وتصريحًا، متهمة إياها بالتطبيع مع العدو الإسرائيلي، ورأت فيها أداة لتنفيذ (الغزو الثقافي الغربي)، بل روّجت كذبة أن “إسرائيل” تمولها بهدف غسيل المخ العربي، كما لو أن قطر بحاجة للمال!

وما دمنا نسترجع مرحلة الصدمة الأولى، فلا بأس أن نشير إلى أن نظام الأسد لم يكتفِ بتخوينها بل منع مواطنيه من تلبية دعواتها للمشاركة في برامجها، وحاولت سلطات صدّام اعتقالَ أحد مراسليها بتهمة (التجسس)! وقام نظام آخر بمنع (الجزيرة) من العمل على أراضيها، وآخر سمح ولكنه عاد وحظرها احتجاجًا على بعض البرامج أو بعض الموضوعات، وذهب بعضها إلى درجة قطع العلاقات مع دولة قطر أو التهديد بقطعها، وتحميل حكومتها مسؤولية كل كلمة تصدر عبرها، أو الزعم أنها تبرمج مسبقًا كل برنامج، إلى درجة تتجاوز الواقع والمنطق باتهامها واتهام قطر بأنها أنشأت مجسمات لمدن وقرى تشبه مثيلتها في سورية، لتصوير أفلام مزيفة عن حراك السوريين، وعمليات القمع التي تمارسها السلطة في درعا بعد انتفاضة 2011.

في جلسة مع رئيس مجلس إدارة الجزيرة الشيخ حمد بن ثامر عام 1998، سرد لي فيها وقائعَ محددة، مما تتعرض له القناة ودولة قطر من الأنظمة العربية كلها، وخاصة الموسومة بالتقدمية، وبعد ذلك بقليل أصبحتُ -شخصيًا- ضحيةَ حملة ضارية للنظام الأردني على خلفية آرائي التي عبرت عنها في برنامج (الاتجاه المعاكس) عن معاهدة السلام الإسرائيلية-الأردنية؛ فتلقيت تهديدًا بالقتل، كتبه رئيس تحرير صحيفة (الرأي) الرسمية! وفي مرة أخرى دعتني (الرياض) لزيارتها، واستقبلني مسؤول رفيع، وبعد مجاملة سريعة، نصحني بعدم المشاركة في برامج الجزيرة.. حرصًا عليّ!

وإذا كانت ردات الفعل هكذا قبل عشرين سنة؛ فيمكننا تقدير كيف تطورت بعد أن تراكمت مشاعر العداء طوال عقدين ونيف، وخصوصًا بعد (الربيع العربي) وانحياز القناة المهني والموضوعي إلى ثورات الشعوب.

هذه المعطيات تثبت حقيقة تعكس قانونًا اجتماعيًا أو طبيعيًا، وهي استحالة التعايش بين الإعلام الحر والأنظمة التسلطية، وحتمية التناقض والصراع بينهما، كوجه آخر للصراع بين الشفافية والسرية، وبين الانفتاح والانغلاق، أو بين حق الشعوب في الحصول على المعرفة والمعلومات، وسعي الأنظمة الشمولية لاحتكار المعلومة والتكتم عليها، وتكميم الأفواه.

وأختم بالحادثة التالية: بعد انطلاق (الجزيرة) بسنوات، هاتفني مسؤول كبير في الخارجية السويدية، ودعاني لشرب القهوة، وحين التقينا فاجأني بعشرات الأسئلة عن (الجزيرة)، رددت عليها بإيجابية مفعمة بالحرارة، متوقعًا أن يشاركني الشعور، لأن السويد بلد ديمقراطي يقدس حرية التعبير، بيد أني لاحظت امتقاع وجهه طوال الوقت، ولما انتهى قلت له: استخلصت من أسئلتك عدم رضاك عن (الجزيرة)، فهل توضح لي السبب؟
قال: الجزيرة أفشلت سياستنا نحو المهاجرين. سألته باستغراب: كيف؟ فأجاب: نحن ننفق أموالًا ونبذل جهودًا كبيرة لربط المهاجرين بالقنوات السويدية، ليتقنوا اللغة السويدية ويستوعبوا ثقافتنا، ويقطعوا صلاتهم بالقنوات العربية، وكانت الأمور تسير كما يرام، حتى جاءت (الجزيرة) فأفسدت خططنا، باجتذابها القوي للمهاجرين العرب، وصرفهم عن القنوات السويدية، وهذا تطور سيئ جدًا بالنسبة إلينا!

صدمتني إجابتُه، لأنها نبهتني إلى شيء لم يخطر ببالي، هو أنه بات للجزيرة وظيفة قومية إضافية، فهي تحمي ثقافة العرب المهاجرين وتربطهم بقضاياهم الوطنية!
أتذكر ذلك بعد عشرين سنة، وأقول: إذا كانت (الجزيرة) كفيلة بإغضاب السويد؛ فمن البدهي أن تغضب منها الأنظمةُ العربية الشمولية!




المصدر