موسكو: السير على حبل مشدود


الحياة

تشكل اجتماعات آستانة خيار روسيا الرئيس في تحركها الدؤوب لتكريس وتثبيت دورها كمقرر في الملف السوري، باعتبارها سورية مسرحًا لصياغة معادلات سياسية وعسكرية تعظم دورها الإقليمي والدولي وتؤسس لتطويبها قوة عظمى نداً للولايات المتحدة الأميركية، وإقرار المجتمع الدولي، واشنطن بخاصة، به، والتسليم بما يترتب عليه من حقوق وواجبات.
مر التحرك الروسي بثلاث مراحل أولاها تحقيق مكاسب ميدانية في سورية عبر الزج بقوة نارية كبيرة ومدمرة في مواجهة المعارضة السورية المسلحة من أجل إخراجها من المعادلة العسكرية تمهيدًا لإخراج المعارضة من المعادلة السياسية. وقد حققت نجاحات كبيرة في هذا المجال حيث لم تعد المعارضة المسلحة تشكل تهديدًا استراتيجياً للنظام السوري. وهذا مهد لانتقالها إلى المرحلة الثانية: توظيف التنافس الإقليمي على الساحة السورية، واستثمار التناقضات والتباينات بين مواقف القوى الإقليمية والدولية في إبعاد الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج عن الملف والانفراد في إدارته بالاتفاق مع تركيا وإيران.
المرحلة الثالثة، وهي الأهم والأخطر، تمثلت في الحفاظ على دورها المقرر في ضوء التغير الذي فرضه الانخراط العسكري الأميركي المتصاعد في المشهد العسكري السوري على مستويين: محاربة «داعش»، ومقاومة التمدد الإيراني، وما يمكن أن يترتب عليه سياسيًا لجهة حل الصراع في سورية وعليها، بخاصة أن تمدد تنظيم الدولة بدأ بالانحسار، وأن واشنطن وحلفاءها يعملون على ملء الفراغ، ما يعزز دورهم السياسي في أية مفاوضات/مساومات مقبلة، ما استدعى ليس تقديم غطاء جوي لقوات النظام وميليشيات إيران للتقدم في البادية السورية نحو حدود العراق، ودرعا، وريف حلب الشرقي، بل نشر قوات خاصة روسية في مواقع حساسة (ريف السويداء، قاعدة عسكرية في خربة رأس الوعر في البادية السورية، موقع حساس بموقعه الجيوسياسي يبعد نحو 50 كيلومترًا عن دمشق و85 كيلومتراً عن خط فك الاشتباك في الجولان المحتل و110 كيلومترات عن جنوب الهضبة، ويبعد 96 كيلومتراً من الأردن و185 كيلومتراً من معسكر التنف التابع للجيش الأميركي في زاوية الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية)، «لرسم حدود المناطق»، و «منع واشنطن من السيطرة الكاملة على الحدود السورية العراقية»، وفق تصريح لمسؤول روسي، ولقطع الطريق على خططها لدفع حلفائها إلى البوكمال وديرالزور.
لقد قرأت موسكو عودة واشنطن القوية إلى المسرح السوري، وتعزيز قدرات حلفائها بإقامة قواعد تدريب في التنف والزقف والشدادي ومطار الطبقة العسكري، إلى جانب القواعد والمطارات السابقة في رميلان (محافظة الحسكة) وعين العرب/كوباني (محافظة حلب) وتل ابيض (محافظة الرقة)، بالإضافة إلى نشر راجمات صواريخ هيمارس المتطورة في قاعدة التنف، قرأتها كإضعاف لدورها وإبعاد لها عن الدور المقرر في الملف.
غير أن للنجاح في مواجهة التحرك العسكري الأميركي المتصاعد ثمنًا لابد من دفعه للقوى الإقليمية المنخرطة في الصراع على سورية، تركيا في شكل رئيس، حيث تمس الحاجة إليها لتحقيق تقدم على صعيد مفاوضات آستانة من جهة وتخفيف آثار التحالف مع النظام وإيران على علاقاتها ومصالحها مع الدول السنّية من جهة ثانية، وإيران بالدرجة الثانية، حيث لا تزال الحاجة إلى ميليشياتها لخوض حروب بالوكالة مع حلفاء واشنطن وتحقيق مكاسب على الأرض للحفاظ على شروطها الجيوسياسية وفرض تصورها للحل السياسي على قاعدة رجحان كفة النظام السوري. ما اضطرها إلى مسايرة الموقف التركي في صراعه مع حزب الاتحاد الديموقراطي (الكردي) وجناحه العسكري (وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة)، وتحضيراته لشن هجوم على منطقة عفرين، بسحب قواتها من منطقة عفرين (معسكر كفر جنة، الذي يقع في المنطقة الفاصلة بين مدينتي إعزاز وعفرين)، وتغطية العمليات العسكرية للميليشيات الإيرانية في البادية السورية، بخاصة على الحدود السورية العراقية، ودرعا والغوطة الشرقية، وانعكاسها السلبي على صدقيتها كدولة مسؤولة، وعلى دورها كـ «ضامن» لاتفاق خفض التصعيد، ناهيك عن انعكاسه السلبي على حاجتها إلى التوافق مع الإدارة الأميركية للوصول إلى حل سياسي في سورية، وعلى سعيها لإقناع واشنطن بالدخول في مفاوضات على صفقة شاملة، وهذا ما كشف عنه معاون الرئيس الروسي بقوله: «إن تنسيق الجهود مع الولايات المتحدة في إطار الوضع في سورية يتمتع بأهمية خاصة، وبوسع البلدين القيام بالكثير معاً لتسوية النزاعات الإقليمية ليس في سورية فقط بل في اليمن وفلسطين وأوكرانيا»، وعلى توسلها لاختراق الرفض الأميركي بالدعوة إلى بحث مشكلة الإرهاب الدولي، العنصر الذي يحظى بإجماع دولي.
كشفت تحركات الديبلوماسية الروسية مأزق روسيا وحالة شقاء الوعي التي تعيشها، فعلى رغم تفوقها العسكري في الساحة السورية ونجاحها في خطب ود جميع اللاعبين الإقليميين، والإبقاء على قنواتها مفتوحة معهم، فقد وقعت في براثن معادلة مستحيلة: فرض حل عبر منصة آستانة، وهو ما لا تزال واشنطن ترفضه لأنه يعني «انتصار» النظام، حيث أعلن مؤخرًا مسؤول في وزارة الخارجية عن التمسك بوثيقة جنيف 2012، وروسيا ترفض حلاً عبر منصة جنيف لأنه يعني «انتصار» المعارضة.

(*) كاتب سوري




المصدر