للمطارق موسيقى خاصة لا تفارق الروح إذا ما سكنتها


مجد إنديوي

لقد غيّب الموت، هذا الشهر، الشاعرَ الليبي “محمد الفقيه صالح” في مدينة مدريد، عن عمر يناهز أربعة وستين عامًا، إثر معاناة مع المرض، وقد كان يشغل منصب السفير ورئيس البعثة الدبلوماسية في إسبانيا.

وللشاعر الليبي محمد الفقيه صالح، تاريخُ حياة غني، يمثل مراحل تطور وعي جيل كامل من الشباب العربي، مثلما يمثل حالة اعتقال ومصادرة الفكر التي تعرض لها هذا الجيل، على أيدي حكومات ديكتاتورية طاغية، سرقت منه أحلامه ونهضته وحاصرته بالحديد والنار.

ولد محمد الفقيه صالح عام 1953 في مدينة طرابلس، عاصمة ليبيا، وفيها تلقى تعليمه الأول، وفي هذه الأثناء عمل مساعدًا لوالده في تبييض النحاس، وطرق القدور، ثم سافر إلى مصر للدراسة في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، لأن القاهرة كانت مركز إشعاع حضاري، لكل الجزء الأفريقي من الوطن العربي، فحصل منها على درجة البكالوريوس عام 1975. وقد عاد إلى ليبيا ليعمل في وزارة الخارجية، وليكمل أحلامه بالمشاركة بنهضة فكرية واقتصادية لبلده، غير أنه اعتُقل ومجموعة من الكتَّاب والمثقفين الليبيين من قبل نظام القذافي، بتهمة الإقلال من هيبة الدولة، فقط لأنه كان يمتلك رأيًا خاصًا به، ولأنه كان مذنبًا حين حاول أن يكون إنسانًا مثقفًا لا عبدًا يصفق للقذافي، وبقي معتقلًا ليمضي 10 سنوات (1978 – 1988) من عمره سجين رأي. كتب خلالها أول مجموعاته الشعرية، معتبرًا أن فعل الكتابة هو فعل التحدي الوحيد القادر عليه في زنزانته المظلمة، وقد كان يكرر أشعاره كي يحفظها، فلم يكن يُسمح له بامتلاك قلم أو ورقة. وبأشعاره تلك، قاوم التعذيب والقهر والمحاولات الدائمة لتكسير الروح قبل الجسد.

بعد عشر سنوات، خرج الفقيه بالصدفة من سجون القذافي -مع أنه كان محكومًا بالإعدام في السنة التي خرج فيها- عندما أصدر القذافي عفوًا عن معتقلي الرأي، بعد انهزامه بحرب كان قد أدخل نفسه فيها في إثيوبيا، فلم يعد الوضع الجماهيري العام يقبل بأن يعدِم القذافي عشرة من معتقلي الرأي -كل عام- في يوم الاحتفال بتاريخ ثورته، وأمام طلاب المدراس كلهم الذين يُجبرون على حضور الإعدام.

بعد خروجه من السجن، بقي الفقيه فترة طويلة بلا عمل، إلى أن عاد وعمل في الخارجية، وسافر للعمل في بعض الدول الأوروبية، وأخيرًا، وبعد سقوط القذافي، عيُّن محمد الفقيه صالح سفيرًا لليبيا في إسبانيا التي عاش فيها وأحبها وأحبته، إلى درجة أنه مات ودفن في أرضها.

يتميز الفقيه بروحه الشفافة الطيبة الأليفة التي لم يستطع السجن الطويل تخريبها، فهو يبادرك -كلما رأيته- بابتسامة طاعنة في جمالها وعذوبتها، وقد انتقلت عذوبة روحه إلى كتاباته، ليصبح أحد أبرز الأصوات الشعرية الليبية في جيل السبعينيات.

كنبيذ

بصيرته وحدها

كافية لمحو الليل من الليل

واستدراج الأشياء

إلى الانغمار فيه

وحدها

كافية

لنزع الشوك

من لقاء الغريمين.

بدأت علاقته بالأدب منذ الستينيات؛ حيث بدأ بكتابة الشعر، ومحاولة كتابة مقالات أدبية في صحافة المدرسة، وأخذ -منذ المرحلة الجامعية- ينشر في الصحف والمجلات الثقافية الوطنية، وبعض المجلات العربية. ويُعدّ محمد الفقيه صالح صاحب تجربة ثرية، استفادت من التراث العربي الغني، قدر استفادتها من المنجز الثقافي العربي والعالمي الحداثي، وقد تمثّلت ثقافة بلاد الشام بالنسبة إليه بكتّاب جيل الستينيات، والسبعينيات، مثل “أنسي الحاج” و”أدونيس” و”ممدوح عدوان” و”الماغوط”، وبالكتّاب الفلسطينيين مثل “غسان كنفاني” و”محمود درويش”، فقد شكّلوا جميعهم بوادر النهضة الأدبية في المنطقة، وصنعوا الحداثة في طريقة الكتابة، مثلما صنعوا الحداثة في موضوعاتها.

كتب الفقيه قصيدةَ النثر، ولكنه ظلّ ربّان بحور الشعر والصوت الآخر للخليل بن أحمد الفراهيدي. له ثلاث مجموعات شعرية متباعدة الصدور، ولكن قصائدها تشكل مجتمعة عالمًا شعريًا شفافًا ورقيقًا، يصدر عن تجربة مع اللغة، ذات خصوصية لا تخطئها العين ولا الذائقة. تجربة مقلّة لكنها جعلته من الأسماء الشعرية الليبية المهمة.

من إصداراته (خطوط داخلية في لوحة الطلوع) عن الدار الجماهيرية 1999، (حنو الضمة، سمو الكسرة) 2001، (أفق آخر) مقالات 2002، وأخيرًا ديوان (قصائد الظل) الذي كل ما فيه يشي بأن كاتبه كان يعرف أنه لن يبقى منه إلّا ظلّه على الورق. وقد قال عنه في آخر المقابلات التي أُجريت معه: “أعتقد أنّي في إسبانيا وفي هذه المجموعة الشعرية الجديدة، استطعت الاقتراب من نفسي أكثر، استطعت أن أدخل إلى ذاتي بطريقة أكثر جرأة، جعلتني أواجه العمر الذي بدأ يزحف بسنواته مثل الشّيب في رأسي، وجعلتني أتقبّله وأتقبّل هزيمتي بأنّي أصبحت جدّا. وهذه كانت أجمل هزائم حياتي”.

ها أنا يا ابنتي ما زلت على العهد

أن تشبّي أنت كما تشائين، وأن أشبّ أنا على الحنين

“في إسبانيا، وفي هذا العمر، ظهرت كثيرًا فكرة الظل، بكل ما تحمل من حضور فلسفي. وبالتأكيد، فإنّ الوجود في بلد ثان، يفتح أمامك نوافذ جديدة. إسبانيا جديدة عليَّ لكنها أيضًا أليفة، وأعتقد أن هذا قد انعكس على التأمل الذي طغى على المجموعة الأخيرة”.

يعشق مدينته طرابلس، ويؤكد أنها حاضرة -دائمًا- في القلب والوجدان، وقد قال عنها: “هي أشبه ما تكون بمتحف حضاري تاريخي، بسبب تعاقب الحضارات عليها؛ بدءًا من الفينيقيين ثم الرومان ثم الحضارة العربية، وبعدها حتى العثمانية، وكلها تركت آثارًا فيها. طرابلس منقوشة في كل خلية من خلايا جسدي، وحاضرة في كل نبضة قلب وخفقة وجدان”.

بدون طرابلس أنا اليتيم دائمًا.

وقصيدتي يتيمة أيضًا.

ومن أجمل ما قاله محمد الفقيه صالح في طرق النحاس والشعر: “سمعت من النقّاد أنني أقوم بصنع الشعر بحرفية عالية، وأعتقد أن الطرق على النحاس علّمني الصبر والدقة في كل ما سأعمله في حياتي بعد ذلك، إضافة إلى تأثير إيقاع المطارق التي كنا نطرق بها النحاس في موسيقى النصوص دون أن أحسّ، لأن للمطارق موسيقى خاصة جدًا ومتكررة، وهي لا يمكن أن تفارق الروح إذا ما سكنتها”.




المصدر