هل على الفن أن يكون جميلًا؟


رغدة حسن

جاء في امتحان البكالوريا الفرنسية لمادة الفلسفة هذا العام، أسئلةٌ عميقة جدًا، لكن السؤال الذي استوقفني وأعجبني، ووددت لو أن الفرصة تسنح لي لأعرف إجابات الطلاب، هو: هل على الفن أن يكون جميلًا؟؟؟

هذا السؤال، البسيط في ظاهره، المأزق في عمقه.

إن كل إجابة قطعية، عن هذا السؤال، ستؤدي بنا إلى الوقوع في مطبّ شائك؛ إذ لا حتميات ولا مطلقات هنا. علينا أن نعرف إنْ كان يجب على الفن أن يكون جميلًا. لكن ما هو الجمال؟ وما هي معاييره ومحدداته وشروطه؟ وكيف نطلق حكمًا، على عمل فني ما، بأنه جميل؟

أصدرت فيروز ألبومَها الجديد “ببالي” وأحدث ضجيجًا، وأثار انتقادات كثيرة ومختلفة، قسمت الجمهور إلى جبهات: جبهة وجهت اللائمة لفيروز وزيادها، وجبهة دافعت عن فيروز وعن منتجها الأخير! وبينما أنت تراقب حركة التفاعل مع الألبوم، على مواقع التواصل، يخطر لك أن تسأل هذا الجمهور العريض، ما هي المعايير التي أطلق أحكامه على أساسها؛ باعتباره عملًا جميلًا، أو الضد؟

تقول الأديبة الفرنسية فرانسواز ساغان: “على الفن أن يفاجئ الواقع”.

أعتقد أن ألبوم (ببالي) قد حقق هذه الدهشة المفاجئة، كأنها في لحظة صمت عميق، رمت بمفرقعات ملونة، وسرجت خيل التناقضات إلى حلبة المقارنة، وشدّت ركود الساحات، إلى الانفعال؛ بكل حالاته، سلبًا كان أم ايجابًا.

يقول هيغل: “مهمة الفن أن يوقظ مشاعر راقدة، تضعنا في حضرة اهتمامات الروح الحقيقية”. واعتمادًا على هذه المقولة، فقد حقق الألبوم هذا الشرط، أي أنه حرّك مشاعر راقدة، لكن هل وضعنا في حضرة اهتمامات الروح الحقيقية؟

هنا قد تكون القضية خاضعة لذائقة المتلقي الفنية، المرتبطة بخبراته المعرفية، موروثه، وثقافته. والذائقة الفنية ارتبطت عمومًا بالنمطية (المتوقع والمعتاد)، لكن الذائقة تبقى، على طول خط الحياة، متعطشة لما يحميها من الجفاف، تنتظر البرق المحمّل بألوان جديدة من الجماليات الفنية، حتى لا تسقط في هاوية السبات. والجديد يعني ثورة على النمط واللازمات، وكل ما يؤطر الإبداع الإنساني في قالب واحد.

حين نقف أمام منتج فني جديد، من مسؤوليات ومهمة هذا المنتج أن يثير القلق، أن يصيب الحواس بتيار عالي الوميض، يأخذ الروح مباشرة لتذوق معنى الجمال، لكن درجة هذا البريق تتفاوت، بحسب خبرة المتلقي المعرفية، ونمط ثقافته.

لكل منّا مقاييسه في تذوق الجمال، هذه المقاييس تخضع للمزاج أيضًا، المزاج ابن اللحظة- الذاكرة- وانتظار شهي الثمار. وكل هذه المفاعيل تأخذ دورها أثناء تناول وجبة فنية، وتمسك بنا لنطلق حكمًا عليها، بأنها جميلة أو غير جميلة.

حضارة إنسانية بأكملها كحضارة (الإزتيك)، قامت على عقيدة غاية في السمو، تختصرها هذه الجملة “إن الحقيقة هي الجمال”. وما زالت هذه العقيدة تدفع ورثة هذه الحضارة (سكان المكسيك حاليًا)، إلى إنتاج الجمال، إلى جانب حفظهم لموروثات حضارتهم الموغلة في القدم والخصوصية، باستخدام الرموز ذاتها، باللغة الأصلية نفسها (النهواتيل) التي تحمل روح حضارتهم.

ألا يعني هذا أنه يتوجب علينا مراجعة المقاييس والنواظم التي نُخضع ذائقتنا لها.

هناك مقولات تحولت إلى أحكام ومرجعيات، لطريقة فهمنا للجمال والفن، لكنها تبقى ناقصة. الفن أداة سحرية، ومضة إنسانية كثيفة الأثر، عالية الترف، سامية الدلالة، تنقذ أرواحنا من الانكسار، في خضم صراعنا للبقاء، ولعل ما يمنح قلوبَ المقهورين والمظلومين الإحساسَ بترف الحياة، هو فقط تلك المساحة التي يقدمها الفن بجمالياته غير المحدودة، ويأخذهم بإيقاعه؛ ليشعل عصف الأزمنة، ويوقد مدارات جديدة للدهشة.

يقول هيدغر: “لقد قادتنا الميتافيزيقا إلى نسيان الوجود، ولعل الفن يعيدنا إلى مسكن الوجود، فالفن هو راعي الوجود وحارسه، والحقيقة لا تنكشف سوى بتكثيفها، وهذا هو معنى الفعل والمهمة العليا والأساسية للفن”.




المصدر