“الأحرار” و”الهيئة”.. صِدام إداري يحطّم الآمال بتطوير الخدمات في إدلب


ليس النقص في الموارد وحده هو سبب ضعف الخدمات في المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في شمالي سوريا، بل إن هناك مشكلة أكبر من ذلك، تعيق التنمية وتحسين حياة الناس.

وتتمثّل هذه المشكلة في تعدّد الإدارات المدنية والخدمية المُنبثقة عن مؤسّسات المعارضة وقواها الأساسية الفاعلة على الأرض، الأمر الذي خلق ما يشبه التنافس أو لنقل الخلاف على إدارة المناطق.

ونتيجةً لهذا التنافس بين الجهات الخدمية التي أطلقها كل فصيل تراجع مستوى التنمية وتقديم الخدمة المباشرة للمدنيين، كالكهرباء والمياه وغيرها من الخدمات الرئيسة التي تلامس حياة المواطن بشكلٍ كبير.

يرصد هذا التحقيق كيف خسر المدنيون في شمالي سوريا الكثير من الخدمات والمشاريع التنموية، بسبب عدم اتفاق الإدارات المختلفة على إنجاز تلك المشاريع وتنفيذها.

ويتركّز الخلاف بصورة أساسية بين “هيئة تحرير الشام” ممثّلةً بـ “الإدارة العامة للخدمات” و”حركة أحرار الشام” ممثّلةً بـ “هيئة إدارة الخدمات”، ويُعتبر هذان الفصيلان الأكثر نفوذاً في الشمال السوري.

تعدّد المرجعيات

مثلما فشلت فصائل المعارضة بالاندماج العسكري والسياسي أو حتى الالتقاء على مشروع واحد، فإنها أخفقت أيضاً في القطاع الخدمي.

وبالنسبة لـ”هيئة تحرير الشام” فيعود إليها تأسيس “الإدارة العامة للخدمات”، في حين أسّست “حركة أحرار الشام” مع بداية نشأتها مؤسّسة مشابهة عُرفت باسم “هيئة إدارة الخدمات”، وتولّت هاتان المؤسّستان الجزء الأكبر من المشاريع.

وتجلى التصادم بين المؤسّستين في عدّة حالات، أبرزها التنافس على شراء القمح، وتنظيم السيارات ومشكلة الكهرباء الشهيرة والتي تفاقمت مؤخّراً، ويقول المطلعون على الوضع العام في شمالي سوريا، إن هذه المشاكل ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، في ظل التناحر بين الجهات الخدمية وعدم وجود جهة رئيسة تكون هي المرجعية لتقديم الخدمات، على غرار أية إدارة مدنية في أي مكان آخر.

فوضى

برز اختلاف “الهيئة” و”الحركة” في مجال تنظيم سوق السيارات ووضع إطار قانوني لها، فمنذ تحرير محافظة إدلب في شتاء عام 2015 على أيدي القوّة المشتركة لـ “جيش الفتح” وحتّى اليوم تُعاني إدلب من فوضى غير مسبوقة، إذ أنّه بإمكان أي مواطن أن يشتري سيّارة حديثة بمبلغ 1500 دولار أمريكي، دون ترسيم ودون لوحات وحتّى دون معرفة الشخص المالك لها، حيث يتم شراء السيارة من أحد الأسواق الرئيسة ولا سيما سوق سرمدا، إذ تصل هذه السيارات من أوروبا إلى تركيا ومنها إلى سوريا، وهنا ينبغي أن يأتي دور الجهات الإدارية الموجودة في الداخل السوري المسؤولة عن تنظيم أوضاع السيارات الداخلة.

وبحسب معلومات حصلت عليها “صدى الشام”، فإن خطوة تنظيم سوق السيارات لم تنجح، وفشلت “مديرية النقل البري” في إصدار قرار لتنظيم هذا القطاع، حيث رفضت “الحكومة المؤقّتة” ومجلس محافظة إدلب ذلك متذرعةً بعدم إخطارها بقرار مديرية النقل، وبأن الإجراء غير قانوني.

وأشارت مصادر من داخل إدلب إلى أن الجهات التي رفضت كان يقف خلف رفضها فصائل كبيرة لم ترَ في المشروع منفعة كافية لها، وأوضحت المصادر أن من أبرز الطرق والأدوات الخاصة بعمليات الاغتيال، والتفخيخ التي حدثت على نطاقٍ واسع في شمالي سوريا خلال الفترة المنصرمة، حيث إن عدم وجود تنظيم للسيارات يؤدّي إلى ضيعان الجهة التي قامت بالجريمة.

معركة من نوع آخر

 

وصل التنافس بين “الحركة” والهيئة” إلى محاولة إقناع الفلاحين ببيع محصولهم السنوي من القمح، فحاول كل من الطرفين طرح أسعار مختلفة لشراء هذه المادة الاستراتيجية، فضلاً عن اتباع أساليب أخرى لكسب هذه “المعركة”.

وفي معلومات سابقة نشرها “معبر باب الهوى” قبل أسابيع، فإن “هيئة تحرير الشام” قامت بقطع الطريق المؤدي إلى المعبر الواقع في ريف إدلب الشمالي، ومنعت وصول سيارات وقوافل الإغاثة إلى الداخل السوري.

جاء ذلك تزامناً مع إعلان نشرته “هيئة إدارة الخدمات” التي تتبع للحركة عن رغبتها بشراء القمح من المزارعين في ريف حلب، وحدّدت الإدارة سعر شراء القمح من المزارعين، بمبلغ 140 ليرة سورية لكيلو الغرام الواحد الطري، و142 ليرة سورية لكيلو الغرام القاسي وهو من أجود أنواع القمح.

وقبل أيامٍ من هذا الإعلان، نشرت الجهة الأخرى المنافسة؛ “الإدارة العامة للخدمات” التابعة للهيئة إعلاناً عن رغبتها بشراء القمح بسعر 103 ليرة للطري، و105 للقاسي، وأشارت الهيئة في إعلانها إلى أن هذا السعر رسمي وهو الوحيد المتداول في شمالي سوريا.

وأكّد ناشط فضّل عدم الكشف عن اسمه لـ “صدى الشام”، أن قطع الهيئة للطريق وعرقلة وصول المساعدات، جاء بسبب إعلان الحركة عن سعر منافس بزيادة أكثر من 25 ليرة للكيلو الواحد، ما أثار غضب الهيئة، لافتاً إلى أن هذه المشكلة أدّت إلى قطع الطريق ومنع وصول السيارات الإغاثية من جهة، ومن جهةٍ أخرى تسببت بمشكلات في عملية توزيع القمح ما تزال آثارها قائمة حتّى اليوم.

وربطت مصادر مطلعة في الشمال السوري، الأحداث التي اندلعت بين الطرفين في مجال التنافس على شراء القمح، إلى امتعاض الهيئة من طرح الحركة سعراً يغري الفلاحين أكثر.

ذروة الخلاف

على الرغم من أن مشكلة الكهرباء الأخيرة وجدت طريقها إلى الحل، إلّا أن النزاع عاد بين “الإدارة العامة للخدمات” التابعة لـ “هيئة تحرير الشام” و “هيئة إدارة الخدمات” التابعة لـ “أحرار الشام”، بعد أن اتهمت الأولى للحركة بأنها “تمنع استكمال أعمال الصيانة في البرج المُدمّر”.

وتعود مشكلة الكهرباء إلى ما حصل قبل أسابيع من تنافس شديد بين الطرفين، بهدف إيصال الكهرباء عبر نظام “أمبير” إلى المدنيين، لكن ما حدث هو أن الهيئة كانت تريد مبلغ 2500 ليرة سورية مقابل الأمبير الواحد، في حين طلبت الحركة مبلغ 1000 ليرة فقط.

يقول ناشط إعلامي في محافظة إدلب، رفض الكشف عن هويته حفاظاً على أمنه، لـ “صدى الشام”، إن الهيئة تمتلك معظم الكوادر البشرية ولديها خبرة واسعة في مجال الكهرباء لكنّها في الوقت ذاته تسعى إلى تحقيق ربح مادي على حساب المدنيين، في حين أن الحركة ستأخذ مبلغ 1000 ليرة فقط لقاء إيصال الكهرباء، ويذهب قسم منه إلى أصحاب الأمبير فيما يذهب القسم الآخر كمرابح للحركة، وأضاف أنه بعد أخذ ورد بين الطرفين تم التوصّل إلى اتفاق لإيصال الكهرباء.

وبحسب بيان صدر عن “المؤسّسة العامة للكهرباء” التابعة للهيئة بتاريخ 2 من شهر تموز الجاري، فإنه “بعد الاتفاق على توصيل الكهرباء أنهت ورشات الصيانة التابعة لكافة المؤسّسات الخدمية بما فيها الحركة والهيئة أعمال الصيانة على خط التوتّر العالي حماة – الزربة، وتم وصل خط التوتّر إلى محطّات (الزربة وإدلب وأورم) تمهيداً لإيصال التيار الكهربائي إلى المشافي والأفران، ولا تزال الاجتماعات مستمرّة بين الهيئة والحركة لحل كافة الإشكالات المتبقّية بهذا الملف”.

لكن “هيئة تحرير الشام ما لبثت بعد ذلك أن أصدرت بياناً اتهمت فيه حركة أحرار الشام بإرسال قوّة عسكرية مزوّدة برشاشات ثقيلة لمنع استكمال الإصلاحات”، وطالبتهم بـ “الابتعاد عن الأمور الخدمية لأن المستفيد هو النظام على حساب المدنيين في الشمال المحرّر”.

ملف الكهرباء

رداً على عدد من التساؤلات أقرَّ المهندس أحمد الشامي، مدير قسم الإعلام في “هيئة تحرير الشام” بفشل الفصائل داخل سوريا بالعمل المشترك، وأضاف في تصريح لـ “صدى الشام”: “لن يحصل اندماج خدمي دون اندماج سياسي وعسكري”، وتابع “حاولنا إنجاح الاندماج في الجانب الخدمي لكنّنا فشلنا، والحل البديل اليوم هو ما نعمل عليه عبر تكثيف الاجتماعات الدورية التي يتم من خلالها تنسيق العمل وتقاسم المهام في المناطق المحرّرة”.

وأوضح أن سبب تحديد “هيئة تحرير الشام” سعر الأمبير بـ 2500 ليرة والحركة 1000 ليرة، يعود إلى أن الحركة لم تساهم بإنشاء خطوط التوتّر العالي المتوسّطة والبديلة وصيانة الخطوط الأساسية، ولا حتى بالصيانة في محطّات التحويل الفرعية، لذلك فقد وضعوا هذا المبلغ دون أن يتكلّفوا بأية تكلفة سابقة، واقتصروا على الرسوم التشغيلية فقط.

ولفت إلى أن مشروع تزويد الشمال بالكهرباء ليس عبارة عن مولد كهربائي وشبكة محدودة وقواطع منزلية، بل يتبع لعدة مراحل وتقوم أكثر من دائرة بالإشراف عليه، حيث يبدأ الأمر بتحديد الطاقة المتوفرة وكيفية توزيعها ومراقبة الأحمال في جميع المحطات، ومتابعة المخارج الكهربائية من كل محطة، ومن ثم التفريعات والعلب والقواطع، بالإضافة لأعمال الصيانة والمتابعة الدائمة، وتشغيل المولدات في حالات الانقطاعات العامة.

وأردف أن الكلفة التأسيسية تتضمن ثمن المواد المستخدمة (محولات، وكابلات توتر متوسط ومنخفض) من أجل إيصال التوتر الكهربائي إلى المولدات، وهذه المصاريف تحتاج أشهر لتعويضها وفق التسعيرة التي وضعتها الهيئة، بالإضافة إلى أنها ستؤمن تعويض كهربائي عبر تأمين ديزل لتشغيل المولدات في حال الانقطاعات العامة وهذه الانقطاعات كثيرة جداً في هذه الظروف.

واعتبر أن “هيئة تحرير الشام” لم تتدخل إطلاقاً بملف الكهرباء، لأن المؤسّسة الخدمية تعمل باستقلالية ولها مجلس إدارة له الكلمة الفصل، وختم بالقول: “نعم نحن اتهمنا أحرار الشام بتفجير أحد الأبراج الكهربائية في منطقة عطشان بريف حماة الشمالي ما تسبب بانقطاع الكهرباء عن كافة مناطق الشمال السوري”.

هكذا ردّوا

بدورنا تواصلنا مع “حركة أحرار الشام” للرد على هذه الاتهامات، فجاء الرد على لسان أحد مسؤولي “هيئة إدارة الخدمات” بأنه لا يوجد لدى الحركة ما تقوله أكثر من البيانات التي أتاحتها للإعلام.

وبالعودة إلى تلك البيانات يتضّح أن “هيئة إدارة الخدمات” التابعة للحركة، أصدرت بيانًا الإثنين الماضي، قالت فيه: إن أسباب انقطاع الكهرباء هي إلقاء النظام للبراميل المتفجرة على خط الكهرباء في قرية عطشان جنوبي إدلب، إضافةً إلى عدم السماح لورشات النظام بالدخول إلى المنطقة التي جرى فيها العطل من قبل أحد عناصر “جبهة النصرة” في مدينة خان شيخون لعدة أيام متتالية.

وأرجع البيان الانقطاع في التيار إلى عدم توزيع الكهرباء بشكل عادل في المناطق المحررة ضمن المبادرة “غير العادلة” المتفق عليها بين النظام و”هيئة تحرير الشام” ومؤسسة كهرباء حلب الحرة التابعة لحركة “نور الدين الزنكي”.

وتابع البيان: “أن الحركة تستخدم هذه العطل كورقة ضغط على النظام للحصول على نصف كمية القمح الموجودة في صوامع الحبوب بقلعة المضيق، فهي تقع تحت سيطرة الحركة لكنها مرصودة ناريًا من قبل النظام، وتقدر الكمية بـ 20 ألف طن”، مطالباً بإعادة توزيع الكهرباء في كافة المناطق المحررة في الشمال السوري، وإلى المرافق الإنسانية بالتحديد ليستفيد منها كل المواطنين.

وختم البيان بأن الحركة عرضت مبادرة على هيئة تحرير الشام وكهرباء “حلب الحرة” التابعة للزنكي، لتوحيد العمل في مؤسسة كهرباء واحدة فرفضت الهيئة ووافقت كهرباء “حلب الحرة”.



صدى الشام