ترامب وبوتين ولوبان والعنصريون في لبنان


فوزي مهنا

هل نحن أمام قرن تنامي العنصريات وعودة الديكتاتوريات؟ ففي الوقت الذي أخذ يُسيّر الشعب الفرنسي ببعض مدنه عددًا من التظاهرات الاحتجاجية، بمواجهة مرشحة الرئاسة الفرنسية السابقة مارين لوبان، زعيمة حزب اليمين المتطرف، ورميها بالبيض الفاسد والطماطم، وفي الوقت الذي رفض عدد كبير من المسؤولين الرسميين في العالم استقبالها، نظرًا لخطابها العنصري، سارع لبنان الرسمي إلى استقبالها بحفاوة بالغة!

الطيور على أشكالها تقع؟ لوبان التي تنضح بالعنصرية، لم تجد رجالًا تُعجَبُ بهم، في هذا الشرق الكبير، سوى من يتشبثون بالكرسي حتى لو احترقت الأوطان، كالجنرال ميشيل عون الذي عطّل الدولة، وقامر بها في مزاد الميليشيات وهرطقات السياسة، وأدخل هذا الكرسي في موسوعة (غينيس) للأرقام، بعد أن تأجلّت جلسات مجلس النواب اللبناني أكثر من 46 مرة، فقط كي يُصبح رئيسًا للجمهورية؛ لتتحول بيروت درة المتوسط، بسببه وحلفائه، إلى مستنقع آسن، تنتشر فيها جبال الزبالة والوطاويط والروائح الكريهة.

بالمناسبة هؤلاء العنصريون الذين استقبلوا لوبان بالورود مُحتفلين بقدومها، بدلًا من رميها بالبيض الفاسد، هم أنفسهم من هلّلوا لقدوم بوتين، واحتفلوا وصفقوا لفوز دونالد ترامب الذي واجهته التظاهرات الاحتجاجية، منذ الأيام الأولى لتقلُّده الرئاسة، بسبب تصريحاته وقراراته العنصرية التي لاقت استنكارًا عالميًا كبيرًا، حتى من أقرب حلفاء أميركا التقليديين، إلى درجة أن عمدة العاصمة البريطانية لندن طالب بعدم استقباله في المملكة المتحدة، بدورها الحكومة البريطانية تلقّت عريضة إلكترونية وقّعها أكثر من مليون و850 ألف شخص إنكليزي، يطالبون البرلمان في وستمنستر، بإلغاء الزيارة التي من المتوقع أن يقوم بها ترامب لبلادهم.

وبالتالي هم أنفسهم من مارسوا العنصرية ويمارسونها اليوم بأبشع تجلياتها، بالأقوال كما بالأفعال بمواجهة اللاجئين السوريين، دون أي رحمة أو شفقة، أو وازع من ضمير. في استطلاع لموقع (إنسايدر مونكي) الأميركي، بهدف تصنيف أكثر 25 دولة عنصرية في العالم، أظهرت النتائج أنّ لبنان يحتل المرتبة الثانية، بعد الهند، في تصنيف الدول الأكثر عنصرية في العالم.

بعد تفجيرات حزيران/ يونيو الماضي، وبينما اتخذت محافظة بعلبك قرارًا بمنع تجوُّل النازحين السوريين، تعرّضت 10 عائلات للضرب من طرف لبنانيين، وفي تموز/ يوليو قامت بلدية في قضاء جبيل، بإجبار اللاجئين السوريين على تنفيذ يوم عمل مجاني لتنظيف شوارع البلدة، وفقًا لصحفية (السفير) اللبنانية، وفي مشهدٍ آخر تناقلت وسائل الإعلام صورَ مداهمة عناصر من شرطة بلدية عمشيت، شمال بيروت لمكان ظهر فيه بعض السوريين راكعين على الأرض، بينما آخرون يقفون ووجوههم إلى الحائط وأياديهم للخلف؛ وهو ما دفع الناشطين اللبنانيين إلى الاحتجاج على ما عدّوه إجراءات عنصرية، فضلًا عن الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها اللاجئون، من إساءات جسدية وتحرّش وتوقيف عشوائي، وطرد من المخيمات بالقوة، وفقًا للباحثة في شؤون اللاجئين لدى منظمة العفو الدولية “خيرونيسا دهالا”.

يقول أحد رجال لبنان الكبار أمين معلوف: “يجب أن نصمت، عندما ينام الأطفال لا عندما يُذبحون”. لذلك ليس هذا هو لبنان الذي تأسس على روح المحبة والتسامح والسلام، لبنان الذي يصمت عندما تذبح البشر، والذي يكاد لا يمرّ يوم دون أن يطالعنا خبر أو صورة، تتعلق بحادث عنصري هنا أو هناك، بعد أن تحوّل التمييز بحق اللاجئين السوريين إلى منهجية متواصلة، يتسابق من خلالها بعض اللبنانيين للتفنن لمن يبدي عنصرية مقيتة أكثر بمواجهتهم.

بعد أن ذهب عميد صحيفة (النهار) العريقة “غسان تويني” عام 1933، وهو الذي تمسك بعروبته والمحافظة على قيم العدل وقيمة الإنسان حتى آخر رمق في عروقه، تحولّت (النهار) من بعده إلى بوق يردح بالعنصرية بمواجهة السوريين، مرة بالتخويف والتهويل من كثرة أعدادهم، والشكوى من كثرة إنجابهم، وتأثير ذلك على التوازن الديمغرافي، وأخرى بتصويرهم على أنهم ينحدرون من الصحراء وغير متحضرين، وثالثة حزن وغم الصحيفة الكبيرين على فقدان “شارع الحمرا” الشهير لهويته اللبنانية.

حتى عنوسة اللبنانيات كان سببها اللاجئون السوريون! على حد تقرير لقناة (أم تي في) اللبنانية، في حين أن الهواء الذي يتنفسه اللبنانيون بات ملوثًا بعد دخولهم! على حد وصف صحيفة (النهار) نفسها، وكأن اللبنانيين كانوا يستنشقون الورد والعنبر والياسمين، قبل ذلك، متناسين لبنان الغارق حتى آذانهم وأنوفهم بالنفايات والزبالة الكريهة، متناسين حملة “طلعت ريحتكم” واليافطات التي رُفعت فيها، مخاطبة بعض السياسيين اللبنانيين، بأنهم قمامة بجب التخلص منها.

لقد غاب فؤاد شهاب، ورياض الصلح، ومحمد مهدي شمس الدين، وكمال جنبلاط، وغاب معهم صوت لبنان، ليحل محله صوت هؤلاء العنصريون، بعد أن تذهب الضمائر والأخلاق، ماذا سيتبقى من روابط مشتركة فيما بين البشر؟ عندما طُلب من الراحل ريمون أدّه، أن يحلف يمينًا، رفض، لأنه كما قال لا يستطيع المحافظة عليه. ليس خوفًا من الله الذي يقسم به، وإنما خوفًا من الضمير الذي لا يغفر ولا يرحم ولا ينسى.

لذلك، بات من الطبيعي أن نسمع اليوم أنهم عثروا على أحد أرصفة بيروت، على طفل حديث الولادة يبكي داخل حقيبة، ومن الطبيعي أكثر أن يصبح “أبو المئة صاروخ”، وئام وهاب، سيد القوم، لا يتورع عن إرهاب كل فكر، قد يطالب بالكشف عن ملابسات المجزرة البشعة التي ارتكبت بحق اللاجئين السوريين في مخيم عرسال مؤخرًا، ووفاة أربعة معتقلين في سجون الجيش اللبناني، بعد اعتقالهم بثلاثة لأيام، بما فيهم المنظمات الإنسانية، بقوله: “كل من يتناول ما قام به الجيش، سنتولى إسكاته! لأن أولادنا أهم من مهرجي جمعيات حقوق الإنسان الدجّالة”.

على ماذا يتربع هؤلاء العنصريون في بلد الأرز اليوم؟ أكثر من 80 مليار فقط، إجمالي الدين العام على الدولة اللبنانية، لهذا العام 2017، أكثر من 880 مليون دولار فقط، ما يحتاجه نهر الليطاني لتنظيفه من أوساخهم وقاذوراتهم، فضلًا عن جبال الزبالة التي تراكمت في كل مكان، قبل عام 1975 كانت التغذية بالتيار الكهربائي في لبنان (24/24) لدرجة أنه كان يبيع الكهرباء لسورية، فيما يأخذ اليوم الكهرباء منها على الرغم من محنتها، لتنقطع عن بعض مناطقه في اليوم الواحد أكثر من 14 ساعة، وفي بيروت نفسها أكثر من ثلاث ساعات.

إذا ما تقابل فريقا الأنصار والنجمة اللبنانيين، في مباراة رياضية ودية مثلًا، انقلبت الساحة عندها من تنافس في الرياضة إلى تنافس وصراع على المذهب والطائفة، وإذا تخانق لبنانيان على إشارة ضوئية مثلًا، أو كتب أحدهم على صفحات التواصل الاجتماعي ما يغث خاطر الآخر، تبدأ الطائفة بشحذ السكاكين، فعلى ماذا يتربّع هؤلاء المساكين؟!

يُقال إن العنصرية مثل عود الكبريت، يحتاج إلى بيئة ملائمة لاشتعاله، من أين جاء بعض اللبنانيين بظاهرة الاستعلاء، وهذا الهوس الخرافي بأنهم متحضرون؟ في عام 1916 ضربت لبنان ودمشق المجاعةُ “لم يكن هناك حبوب في متصرفية جبل لبنان، كانت المجاعة تحصد من الجانبين كل يوم من 20 إلى 25 شخصًا” وبسبب ندرة الطعام؛ أخذت الناس تأكل الحشائش ولحوم الحمير والبغال والقطط، رغم حجم المجاعة لم يتوان السوريون قطّ عن اقتسام ما لديهم من قمح بينهم وبين اللبنانيين.

بعد مضي مئة عام على ذلك، قام بعض اللبنانيين برد الجميل، بمحاصرة السوريين في مدينة مضايا، وإجبارهم على أكل تلك اللحوم، لا أحد من اللبنانيين يريد أن يتذكر، وحدها فيروز من تتذكر بأغنيتها “ع الروزنة”، المأخوذة من التراث الشعبي، المرتبط بتلك التراجيديا المحزنة، يروي جورج أنطونيوس في كتابه (اليقظة العربية) أن رجال بعض القرى في لبنان كانوا يهاجرون ليموتوا بعيدًا عن أعين نسائهم وأطفالهم المُقتاتين على الحشائش، وأنه حتى الأربعينيات كان لا يزال هناك من يأكل الحشيش، كما تذكر حنان الشيخ، في روايتها (حكايتي شرحٌ يطول).

بماذا نصف بلد الأرز اليوم؟ غير بأنه بات دولة تتوقف خارج حدود الزمن، بعد أن شلّت حركته المحاصصات الدولية والطائفية، وأخذت تختلط مع تربته العنصريات. يؤكد أمين معلوف الذي ترك هؤلاء وأمراضهم ورحل إلى باريس، أن مقياس الحضارات هو قبل كل شيء تقبُّل الآخر! ماذا تبقى للبنان بعد أن أقفل مسرح “بابل” في بيروت أبوابه ونوافذه إلى الأبد؟ برحيل أعمدته، الرحابنة وفيروز وصباح، ووديع الصافي، ليحل محلها استعراضات هيفاء وهبي، ومؤخرة ليال عبود، وفيديو كليب، رولا يموت، وبعد أن أصبح أفضل منجزاته أكبر صحن حمص في العالم، وأكبر طبق كبة، وأكبر طبق تبّولة.

ثم ماذا قدم لبنان للاجئين السوريين؟ عدا عن تلك الممارسات العنصرية، تجيبنا على ذلك المعلومات الصادمة، الصادرة عن منظمة (هيومن رايتس ووتش) المتضمنة أن عدد الأطفال السوريين الذين سجلوا في المدارس اللبنانية، لا يتجاوز 3 بالمئة فقط، في حين تبلغ نسبة الأسر التي تعيش دون خط الفقر 71 بالمئة، وأن إجمالي نفقات أكثر من نصف الأسر اللاجئة في لبنان، كانت أدنى من سلة الإنفاق الدنيا للبقاء على قيد الحياة، وفقًا لدراسة أجرتها المفوضية السامية للأمم المتحدة.

أليست فضيحة لبنانية أن بلدًا فقيرًا مثل السودان يبعد آلاف الكيلومترات عن سورية، يحتضن اليوم -وفقًا لبعض التقديرات- أكثر من ثمانمئة ألف لاجئ سوري، يتعامل معهم السودان الفقير، على قدم المساواة مع مواطنيه، من حيث العمل والتعليم والطبابة المجانية، فيما أوروبا تستقبل منهم مئات الآلاف، وتدفع أكثر من 670 يورو لكل لاجئ شهريًّا، فضلًا عن تقديم الخدمات الأخرى، مثل السكن والتعليم والضمان الصحي المجاني.

أخيرًا، هل سيعيد التاريخ نفسه؛ فيشهد هذا القرن عودة العنصريات والديكتاتوريات البغيضة؟ فمثلما سمّي القرن الثامن عشر بقرن المنطق وإعمال العقل، سُمي كذلك القرن العشرين، قرن الخلاص من الدكتاتوريات، فمع بدايات القرن العشرين كان هناك نحو 46 ديكاتورية في العالم، لم يتبق منها مع بداية هذا القرن، أكثر من أصابع اليد الواحدة، لكن مع مجيء كل من ترامب وبوتن ولوبان ونتنياهو، وصبي كوريا المبجل، لقيادة عالم اليوم، بتنا -بلا أدنى شك- أمام عودة العنصريات، وتعويم الديكتاتوريات.




المصدر