دولة “الحارات”


باسل العودات

في أكبر ميناء بحري ألماني، اجتمع ترامب وبوتين ساعتَين، وقرّرا في نهايتهما وقفَ إطلاق النار في الجبهة الجنوبية من سورية، بمعزل عن بقية المناطق السورية. ومنذ فترة يتلاعب الروس والإيرانيون لتمرير وقفٍ لإطلاق النار في أربع مناطق، عبر “أستانتهم”، لن يشمل -وفق خطتهم- سوى مناطق محددة المساحة ومتفرقة. وقبلها، فرض الروس وقفًا لإطلاق النار في شرقي حلب فحسب، ونشروا مرتزقة (أنغوشيين) بلباس شرطة عسكرية روسية ليضمنوا ثباته، غير عابئين باستمرار النار خارج هذا الشطر من المدينة.

كان النظام السوري سبّاقًا لمثل هذه الهدن ولعمليات وقف إطلاق النار الجزئية الصغيرة المتفرقة، وقد اشتغل عليها على مستوى المناطق والبلدات والقرى و”الحارات”؛ وحاصر وجوّع وقتل ودمّر وهجّر وغيّر ديموغرافيًا، وأطلق وحوشَه ووحوش (حزب الله) وإيران، ليضمن رضوخ السكان لشروط وقف إطلاق النار والهدنة، وعمل أحيانًا على ضمان ذلك في “حارات” صغيرة، بمعزل حتى عن “الحارات” المجاورة لها.

ليس هؤلاء الغزاة فحسب مَن عمل على مبدأ “الحارات”، فالميليشيات الطائفية اللبنانية والميليشيات الكردية ومرتزقة النظام وشبّيحته، وحتى فصائل المعارضة المسلحة، كلّهم اشتغلوا بالعقلية نفسها.

عملت الميليشيات الكردية على احتلال شمال سورية مزرعة تلو أخرى، وقرية بعد قرية، وهددت وهجّرت وقتلت؛ لتحقيق انتصار لها في هذه القرى “الميكروية” الآهلة بالسكان، وقضمت البلدات شبرًا وراء شبر، وانتشى زعماؤها انتصارًا وفخرًا، كلما دخلوا نصف ربع حارة، وزاحموا فصائل المعارضة في الشمال لزيادة عدد “الحارات” التي يحتلوها، وعند العجز أقنعوا أنفسهم تكتيكيًا “بما رزقهم الله” من “حارات”، وقالوا هذه حدودنا، ووضعوا دستورًا ووحدات للمرأة لكل “حارة” داخل هذه الحدود.

ميليشيات (حزب الله) اللبناني نهجت الطريق نفسه؛ فتمددت كالأخطبوط في القلمون وغربي دمشق، وعلى طول الحدود السورية اللبنانية، وكالسرطان القاتل احتلت بلدة وراء بلدة، شارع وراء شارع، “حارة” وراء “حارة”، وكلما استولت على “حارة”، قالت إنها اكتشفت ضريحًا شيعيًا فيه وستبقى لحمايته.

أما مرتزقة النظام وشبيحته، فوضعوا حواجزهم على رأس كل “حارة” سيطروا عليها، وأقاموا مملكتهم داخلها، وفرضوا شروطهم وأتاواتهم، واستعبدوا سكانها وأذلوهم، وقاتلوا واستقتلوا لتوسيع نطاق نفوذهم لـ “حارة” ثانية، فالرزق سيزيد، والنهب سيتوسع و”التعفيش” سيكثر، وراقبهم النظام يوغلون إجرامًا، راضيًا مبتسمًا، يرى فيهم صورة عنه وعن أخلاقه.

لا تبتعد غالبية فصائل المعارضة المسلحة عن هذا المنطق، بعد أن قسّمت “الجيش الحر”، ودمّرت فكرته المهمّة؛ فسيطرت على حي أو قرية، واقتنعت بتواضع حدود مملكتها، وتوازعت “الحارات” بـ “العدل والقسطاط”، وأحيانًا تقاتلت دمويًا عند تعدّي فصيل على شبر من أرض فصيل آخر، وصارت حدود ممالكهم بالأشبار.

يمكن الحديث هنا، بشكل مشابه بشكل أو آخر، عن حارات الآشوريين، والدروز، والإسماعيليين، والمسيحيين، وعن حارات الأتراك والإيرانيين والشيشانيين والأميركيين والنرويجيين وغيرهم.

حوّل النظام السوري، بغبائه وقصر نظره وسوء أخلاقه وإجرامه ودمويته ولا وطنيته وطائفيته وفساده، حوّل سورية إلى دولة “حارات”، تتناهبها القوى الخارجية والداخلية، ويتنافس الجميع عليها، مهما صغُرت الغنيمة أو كبرت، “حارات” لا تهتم ببعضها، منغلقة على ذاتها، لا رابط يربطها ولا مستقبل جمعي لها.

على السوريين -ليكون لهم دولة حقيقية- أن يرفضوا منطق دولة “الحارات” التي أبدعها النظام، ويسعى الجميع الآن لترسيخها، فسورية كانت -ويجب أن تبقى- دولةً واحدةً لشعب واحد، وهذا هو الثابت الوحيد الذي يضمن أن يكون لسورية وللسوريين مستقبل.




المصدر