غياب الكهنوت في الإسلام… نعمة أم نقمة؟


رعد أطلي

تكاد تكون منطقة العالم الإسلامي هي الوحيدة التي ما زالت تعاني صراعات مبنية على مدى ارتباط الدين بالدولة، أو بإدارة الشؤون العامة والسياسة بالعموم، وما زالت الديمقراطيات العلمانية الناشئة في مناطق إسلامية ديمقراطيات هشة، تلعب فيها الأيديولوجيا الدينية دورًا رئيسًا، ففي حين تكون الدول ذات الأكثرية الإسلامية علمانية من خلال الممارسات القمعية التي تقوم بها سلطات عسكرية أو مدنية مرتبطة بقوى في الجيش؛ فإن أول ما تختاره الشعوب في تلك البلاد، ما إن تسنح لها الفرصة، هي تيارات الإسلام السياسي، وحين يخفق أحد تلك التيارات يتم عزو ذلك إلى سوء إدارة التيار وليس للأيديولوجيا التي يتبناها.

يسعى كثيرون ليجعلوا من أوروبا مثالًا في التحول من السلطة الدينية إلى المدنية العلمانية، فهل يمكن أن يتم إسقاط التجربة الأوروبية على واقع البلاد التي تعيش فيها أكثرية إسلامية؟ تحاول هذه المادة العودة إلى جذور ارتباط المعبد بالنظام السياسي في أوروبا، وفي العالم الإسلامي والتراكم البنيوي التاريخي الذي حققه ذلك الارتباط، منذ بدايته وحتى يومنا هذا لمعرفة مكامن الاختلاف التي من شأنها أن تحدد إمكانية إسقاط التجربة في فصل الدين عن الدولة من عدمها.

يتفاخر العديد من شخصيات التيار الديني الإصلاحي أو أبناء المدرسة العقلية في الإسلام، حين يلقون محاضراتهم عن الديمقراطية والعلمانية ومدى قدرة الإسلام على استيعابهما بأن الإسلام لا يعترف أساسًا بالكهانة؛ وبالتالي فما من طبقة دينية في الإسلام متمايزة ومغايرة لباقي أبناء الرعية بما يجعلها قادرة على تحديد الخطأ من الصواب، أي إدارة شؤون الرعية الإسلامية بما هو في صالح تلك الأمة، كما هو الحال في الديانات الأخرى، ولكن هل يمكن اعتبار ذلك فعلًا قيمة مضافة لصالح الدين والفكر الإسلامي في طريق العلمنة؟

إن الديانة المسيحية هي الديانة التي واجهها النضال المدني في أوروبا، على مدى قرون خمسة حتى وصل إلى ما وصل إليه من تحييد الدين وفصله عن الدولة ومفاصل السلطة، وقد دخلت المسيحية “البعيدة الأصل” أوروبا في العصر الروماني، ولم تكن دين القادة يومًا بل إنها بدايةً لم تنعم بالتسامح الديني الذي تميزت به الإمبراطورية الرومانية، حيث صدر مرسوم طرد المسيحيين واليهود من روما، في منتصف القرن الأول بعد الميلاد، ومن ثم اتهمهم نيرون بحرق روما، واستمرت حقبة الاضطهاد مدة قرنين كاملين؛ ومن ثم وفي الربع الأول من القرن الرابع، أعلن قسطنطين الأول المسيحية ديانة رسمية للإمبراطورية الرومانية، وإن ما يهم من ذلك التاريخ هو إظهاره أن الدولة في أوروبا كانت ناشئة وناجزة ووصلت لمرحلة الإمبراطورية قبل تبني الديانة المسيحية، والتي كان لديها طبقتها الكهنوتية “المجمع الكنسي” الواضح والمنفصل بشكل تام عن الدولة، وبالتالي كان هناك سلطة سياسية مهمتها إدارة شؤون الدولة، وكنيسة باتت فيما بعد مؤسسة دينية في الفاتيكان، مهمتها رعاية التشريعات والعقيدة الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يكون للدين دور مهم في إدارة شؤون الإمبراطورية، ومن ثم الممالك والإقطاعيات في فترة القرون الوسطى، لما كان للدين عمومًا قبل القرن السابع عشر من دور مركزي في مختلف أنظمة العالم، ولكن المقصود هنا أنه كان هناك مؤسستان إحداهما سياسية والأخرى دينية، ولم يهدأ التفاعل والصراع بينهما أبدًا، فأحيانا تمكنوا من التعاون عندما تقاربت الأهداف بين المؤسستين، كما حدث في فترات الحروب الصليبية وخاصة في القرن الحادي عشر، وقد لعبت الكنيسة دورًا مهمًا في نشوء مركزية الدولة في أوروبا حينئذ، وفي أكثر الأحيان سيطرت سلطة مؤسسة ما على الأخرى، كما حدث في سيطرة المؤسسة السياسية على الدينية في القرن الخامس عشر، عندما سيطرت عائلة ميديتشي الإيطالية على الكرسي الرسولي، أو في سيطرة المؤسسة الدينية كما هو الحال في القرن العاشر أثناء الحروب الصليبية أو منتصف القرن الخامس عشر، عند سيطرة المحافظين على الكنيسة، وطالما كان هناك حالات تمرد بين الطرفين، ولعل فترة كليمنت السابع في منتصف القرن السادس عشر خير مثال، ففي حين كان البابا يعاني من سيطرة مطلقة، وهو أشبه بسجين عند الملك شارل الخامس، انشقت الكنيسة الإنجليزية عن الكنيسة البابوية، وأعلن هنري الثامن ملك انكلترا نفسه رئيسًا عليها، وعلى الرغم من أنه انشق عن الكنيسة، لكن سيطرة المؤسسة الدينية في بلاده كانت أشد وضوحًا من خلال تولي توماس وولسي الكاردينال الكاثوليكي السياسة الداخلية، لكنه في نهاية المطاف أمر بإعدامه، هذا الفصل الواضح بين المؤسستين جعل الكثير من الكتاب والمفكرين الأوربيين ينادون بفصل الكنيسة عن الملك، وكان الأمر مقبولًا حتى من السلطة السياسية التي عادة ما تعاونت مع السلطة الدينية، إما مضطرة لتثبيت حكمها أو متقاطعة مع مصالحها لتوسيع ذلك الحكم.

إذا نظرنا إلى تاريخ ارتباط الدين الإسلامي بالدولة فسنجد أنه ما من دولة أساسًا نما فيها الدين الإسلامي، وإنما الدولة انطلقت من رحم المؤسسة الدينية في الإسلام، حيث نشأت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، عبر الوثيقة التي كتبها الرسول عليه الصلاة والسلام محددة طبيعة العلاقة بين أفراد المدينة من المسلمين وغيرهم، أي طبيعة السياسة الداخلية، أما السياسة الخارجية فكان دافعها الرئيس مبني على نشر الإسلام، وكان أول اتصال بين الدولة الناشئة والدول الأخرى هي رسائل أرسلها محمد (ص) إلى ملوك وأباطرة تلك الدول يدعوهم فيها إلى الإسلام، وليس من دون دلالة تحديد طبيعة المرسل والمتلقي، فالمتلقي هو إما سيد هذه الدولة أو تلك، والمرسل هو “محمد عبد الله ورسوله”. بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، بدأت النظريات السياسية في الإسلام تظهر ارتكازًا بداية على حادثة السقيفة، ومن ثم على الصراع السني الشيعي في تحديد الحاكمية في الإسلام، لكن كل تلك النظريات ارتكزت على قاعدة ثابتة ترى في رئيس المؤسسة السياسية خليفة رسول الله التي سرعان ما عنت خليفة الله على الأرض والأمين على رسالته، والراعي للتشريعات والعقائد الاجتماعية، وعليه أن يكون متفقهًا في أمور الدين ومحاطًا برجال العلم والصلاح، ويظهر ذلك بوضوح في لقب القادة والخلفاء من مختلف المذاهب من المعتصم بالله للمتوكل عليه للحاكم بأمره أو المظهر لأمره.. إلخ، ولم يكن هناك مؤسسة دينية رسمية منفصلة تشكل طبقة كهنوت راعية للدين تملك حدودًا واضحة بينها وبين النظام السياسي، وليس اختلاف الأئمة ورجال الدين، في مراحل معينة، مع السلطات دليلًا على الفصل بين المؤسستين، فالخلاف قائم على انحراف الآخر عن جادة الصواب والمهمة الموكل بها باعتباره رأس السلطة الدينية والزمانية.

استمر الوضع هكذا حتى نهاية الدولة العثمانية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني الذي أصدر دستورًا تحت ضغط المد العلماني في الدولة؛ فلقي مجابهة من مجتمعات السلطنة وخاصة القبائل المرتبطة بالحركة الوهابية التي انطلقت حينئذ في الأراضي المقدسة، ولا يمكن ذكر مؤسسة دينية منفصلة تمامًا عن مؤسسة السياسة في الدين الإسلامي، وذلك ليس اعتمادًا على النصوص الشرعية فحسب، بل على المسار التاريخي للدولة في المجتمعات الإسلامية، ولعله من الضروري التنويه أيضًا أن الحركات المتمردة الأولى على الكنيسة كانت من أعضاء في الكنيسة نفسها، كما حدث مع مارتن لوثر في حركته البروتستانتية الإصلاحية، وكذلك الكالفنية وغيرها. أما في التاريخ الإسلامي، فيصعب أن تحدد إن كانت الثورات التي قامت في عمومها على النظم السياسية أم الدينية؛ لأنه ببساطة لم يكن هناك طبقة دينية وطبقة سياسية في المجتمع الإسلامي، وبوضوح أكثر لم تكن ميزة الإسلام أنه لا يحتوي على كهنوت “أوصياء على الدين”، وإنما تميز بأن الطبقة السياسية فيه هي طبقته الكهنوتية، وبالتالي لا تجد العلمانية اليوم أرضًا راسخة في المجتمعات الإسلامية، لأنه ما إن تجد وسطًا تنتشر فيه سرعان ما تجد مقاومة مجتمعية راكمتها خبرة تاريخية واجتماعية طويلة، لا يجد فيها المرء نظامًا سياسيًا، وإنما دولة دينية كانت مصدر عزّ لذلك المجتمع. فهل قضية غياب الكهنوت في الإسلام نعمة له أن نقمة عليه؟




المصدر