مشروعية السيادة من شرعية الدولة…!


حبيب عيسى

(1)

بما أن الدولة، من الناحية الشرعية، يجب أن تكون متطابقة مع حدود الأمة، ووطنها الذي تكونّت تاريخيًا فيه، وتميزّت بخصائصها من غيرها من الأمم؛ فإن الحديث عن سيادة كاملة للدولة غير منقوصة لا يستقيم إلا بملكية الدولة غير المنقوصة لأرض الوطن. ذلك أن “السيادة تثبت للدولة بنتيجة ملكيتها للإقليم، والسيادة أمر حتمي، بحيث لا يمكن فصل أيهما عن الآخر، فلا يتصور أن يكون لدولة ما، السيادة على إقليم معين، إذا كان هذا الإقليم لا يدخل في ملكيتها، كما لا يتصور أن تثبت ملكية الإقليم لجماعة بشرية معينة، دون أن يتبع ذلك ثبوت سيادتها القانونية على هذا الإقليم”(1).

وهكذا، فإن ملكية الجماعة للإقليم هي التي تُحدّد حدود سيادة الدولة، وهذا يعني أن حق الجماعة في الإقليم (الوطن) يبقى حقًا حتى في حالة عجز الدولة عن الحفاظ عليه، لأن الحق هو الأساس، يقول عبد الهادي عباس: “إن فهم السيادة -بوصفها حقًّا- يجري عادة استجابة لضرورة المطابقة بين دولة الواقع (ممارسة السيادة) مع الحق. لكن هذا قد لا يكون مقنعًا دائمًا فلا يمكن فهم السيادة لغويًا إلا بكونها واقعًا، وليس حقًّا.. إنها في أساسها ملكية لسلطة الدولة، وهي تعبّر عن واقع قانوني، هو احتكار هذه السلطة للقوة المادية على إقليم معين؛ فصاحب السيادة هو من يملك هذا الاحتكار، وفي حالة الاحتلال ينتقل الاحتكار عمليًا إلى يد المحتل، وهو الذي يكون عندئذ عمليًا الممارس للسيادة..”(2).

(2)

وسواء كان هذا الاحتلال أجنبيًا، أو محليًا، فإنه واقعة جرمية بحق الأمة صاحبة السيادة الأصلية، ويُرتّب لهذه الجماعات والأفراد فيها حقًا لتحرير تلك السيادة، ويرتب عليهم واجبًا ملزمًا في الوقت ذاته. وسيادة الدولة تُحدّد على الصعيد الداخلي بالمجتمع وبنيته وتوجهاته، وتُحدّ على الصعيد الدولي بالعلاقات الدولية، والمعاهدات الدولية، ومن الناحية الواقعية بالفاعلية التي تتمتع بها الدولة، قوةً أو ضعفًا، في ظل غياب قانون دولي عادل ومنصف، وعلى أي حال يمكن رصد ثلاثة حدود رئيسية للسيادة:

1) الحدود الأخلاقية: فالسيادة إذا كانت غير محددّة من الوجهة القانونية “فإن هذا لا يعني قدرتها على تحدي القيم الأخلاقية المعترف بها عند الناس، ومن هنا نشاهد مجالات كثيرة من حياة الشعب تنأى الحكومة عن التدخل في نطاقها، لأنها تدرك ما لهذا التدخل من خطر سيئ تعجز الدولة وسيادتها عن حل إشكالاته الكثيرة التي لا قِبَل لها بها…”(3).

2) التحديد الذاتي: وتُنسب نظرية التحديد الذاتي للسيادة إلى الفقيه الألماني جيللينك، ففي رأيه أن الدولة مُحددّة بقانونها الخاص، لأنها منذ تبنيها لقاعدة قانونية تُصبح مُقيدّة بها، ويتوجب عليها احترامها.

3) التحديد القانوني الدولي: يتمسّك عدد كبير من الكتاب بالرأي القائل أن سيادة الدولة تخضع لقواعد القانون الدولي، والمعاهدات الدولية… لكن: “كلّ دولة تفسرّ الالتزامات الدولية بمقياسها الخاص، وعلى هدي ما يروق لها من سلوك في مجال التطبيق، وتثبت الوقائع كل يوم أن الدولة التي تستخدم قوتها للدفاع عن الحقوق التي تدعيّها دوليًا -بحق أو من دون حق- لا تعبأ كثيرًا بمفاهيم سيادة الدولة الضعيفة المُعتدى عليها، وتفسرّ السيادة على غير ما يقتضي المنطق والفكر الأمر الذي يجعل مصطلح السيادة، وكأنه وجد فقط ليعطي مفهوم سيطرة الدولة الداخلية التامة على رعيتها قوة كبرى. وعلى أي حال، فإن هذا التحديد العالمي هو نوع من التحديد الذاتي، طالما أن الدولة تنضم بإرادتها إلى المنظمات الدولية، وتُلزم نفسها بالقانون الدولي”(4).

إن الهيمنة التي فرضتها الدول الكبرى على النظام الدولي، ومؤسساته الدولية جعلت من الصعب الحديث عن تحديد قانوني للدولة، حيث إن الحدود فرضتها القوة من الناحية الواقعية. يقول عبد الهادي عباس: “في الواقع عندما يجب التأكيد على أن الدولة لا تعرف تحديدًا قانونيًا؛ فإنه يُفهم من كلمة (قانوني) القاعدة التي يُكره على إنفاذها بسلطة الدولة، أي باحتكارها القوة المادية؛ لكن المعروف تمامًا أن القانون الدولي بتعريفه وتحديده ذاته لا يتمتع بهذا الجزاء، وهو مسلوب منه. صحيح أن الدولة ملزمة باحترام القانون الدولي وهي محدودة به، لكن هذا التحديد ليس دائمًا تحديدًا قانونيًا، بالمعنى الذي نتناول به هذا المصطلح. وإذا تبنينا هنا هذا اللفظ يكون صحيحًا القول إن الدولة لا تعرف تحديدًا قانونيًا”(5). وهذا ما يقول به أوستن: “طالما أن أعضاء المجتمع الدولي هي الدول صاحبة السيادة، فإننا لا نستطيع القول إن القانون الدولي له سلطة تفوق سيادة الدولة”، بينما نجد الفقيه الألماني هانز كلسن، يقول: “إن القانون الدولي متفوق قانونيًا، وإن سيادة الدولة محددة بهذا القانون”.

(3)

إن ما يقول به هانز كلسن يتوقف على تحقيق فرضية لم تتحقق حتى الآن، وهي أن (الدول) أشخاص القانون الدولي تخضع للإلزام ذاته، في الظروف كلها، لقانون دولي شرعي، بمعنى توفر شرعية أشخاصه أي شيء. حيث الدول تؤسس وتستمر لتنظيم المجتمعات البشرية، وتلبية حاجات تطورها، أولًا. وحيث توفرّ تلك الدول مؤسسات ذات صفة شرعية على الصعيد الدولي لوضع قانون دولي، ثانيًا. وحيث تخضع جميع شخوص القانون الدولي، وتُلزم بتلك الشرائع بشكل متواز، ثالثًا. وحيث قوة الإكراه والإلزام الدولية بيد المؤسسات الدولية الشرعية، وليست تحت سلطة دول السيطرة والهيمنة، رابعًا. وحتى يتحقق ذلك، يبقى من المشروع البحث عن الخلل في أشخاص القانون الدولي (الدول)، وهذا يعني أن البحث في المشروعية لا يتوقف بقيام الدولة، أو وضع القوانين موضع التنفيذ، وإنما يستمر حقًا للمجتمع والأفراد، وواجبًا عليهم في الوقت ذاته. يقول رادومير لوكيل: “إن للمشروعية أهمية كبرى في القانون؛ فهي السبب الذي من أجله يجب بذل الجهد للكشف بالطريقة الأكثر دقة ممكنة، لكل الأعمال اللامشروعة، واتخاذ الإجراءات لوقف تنفيذها”(6). ويضيف: “يمكن أن يحصل حتى بعد تحديد المشروعية لعملٍ، له قوة القانون، أن تنبثق وقائع وتتدخل لتضع موضع الشك هذه المشروعية، وبكل جديّة، وفي هذه الحالة يمكن على الرغم من القوة الحقوقية لهذا العمل، أو القرار المتعلق بمشروعيته، أن تجري مجددًا رقابة على مشروعيته، وهذه الأصول توضع موضع التنفيذ بطرق استثنائية”(7). ويقول بشكل قاطع: “يجب تنفيذ الأعمال المشروعة فقط.. وإن هذا على جانب كبير من الصحة بحيث يُمكن أن يجر التنفيذ لعمل غير مشروع نتائجَ غير مشروعة”(8).

(4)

إن قوة الدولة، أو ضعفها ليس بأي حال معيارًا لشرعيتها، أو عدم شرعيتها. يقول عبد الله العروي: “لا تنحل الدولة كلية في الجهاز.. قد يكون الجهاز قويًا متطورًا، وعلى الرغم من ذلك تكون الدولة ضعيفة متخلفة. لنتذكر عندما أصبحت عجلات الحكم بين أيدي الأجانب؛ لقد أدخلوا تحسينات من كل نوع على الجهاز حتى أصبح أقوى مما كان عليه في أي وقت مضى، ومع ذلك هل يستطيع أحد أن يقول: إن “دولة كرومر” في مصر، أو “دولة ليوطي” في المغرب كانت قوية؟ بل يحق التساؤل: هل كانت هناك دولة بالمعنى المحدد؟ الملاحظة نفسها تصح على الدولة المعاصرة. إن جهازها قوي متطور، بل هو القطاع الأكثر تطورًا في الغالب، ومع ذلك يبقى وجودها -بوصفها دولة بالمعنى الصحيح، في كثير من الكيانات العربية وحتى الكبيرة منها- موضع شك وتساؤل”(9). وإذا كان هذا هو أثر “الدول” التي أسسها الغرب في الوطن العربي، فما هو أثر العرب في الغرب؟

(5)

يقول الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي عرّب اسمه إلى “رجاء غارودي” في كتابه (حوار الحضارات): “إنني لا أحب لفظة الغرب، وقد حملوّها عددًا كبيرًا من التعريفات التي خدمت قضايا مشبوهة في تقسيم العالم.. إنهم يخلقون وهم أن (الغرب) هو بدء مطلق، وأنه انبجس، مثلما يظهر نبات نتمنع عن تتبع جذوره.. إن هذا يخفي الجوهر الأساسي: إن ما اصطلح على تسميته باسم (الغرب) إنما ولد في (ما بين النهرين)، وفي (مصر)”(10). ويضيف: “إذا رفضنا اعتبار (الغرب) ماهية جغرافية، ونظرنا إليه باعتباره حالة فكرية متجهة نحو السيطرة على الطبيعة والناس، وجدنا أن مثل هذه النظرة إلى العالم ترقى إلى الحضارة الأولى المعروفة، تلك التي ظهرت في دلتا دجلة والفرات، وهي (عراق) اليوم. إن مولد حضارتنا المتميزة بإرادة السيطرة، والنفوذ تجد تعبيرها الأدبي في ملحمة (جلجامش)، وقد سبقت (الإلياذة) بألف وخمسمائة عام”(11).

ويقول: “هناك ارتفع الستار عن أول فصل من تاريخنا، وهذه الملحمة الأولى تجري في (أور) و (أوروك)، وقد سيطر الإنسان على الطبيعة، وقاتل أقرانه وسعى إلى اقتحام حدوده الخاصة ومجابهة الآلهة وتحدى الموت، فعندما يسأله (شمش): لماذا تحاول المحال؟ يجيب جلجامش: لو وجب الامتناع عن هذه المحاولة، فلماذا أيقظت في قلبي رغبة القلق من أجل القيام بها؟”(12).

وعن الينبوع الآخر لحضارة (الغرب) يقول رجاء غارودي: “ثمة ينبوع آخر لحضارتنا الغربية نجد جذوره تتراوح بين (فينيقية)، و (كريت): إنها مصر. لقد كان الفلاسفة والمؤرخون اليونان يعجبون بمصر إعجابًا عظيمًا، وتدين آراء (أفلاطون) الثنائية لها بالشيء الكثير. لقد كان (أفلاطون) يحلم بدولة ذات استقرار سياسي، بينما كان يعيش في ظل ديمقراطية تحفل بالحركة، وكانت (مصر) نموذجه، وقد ألهمت (مصر) الحضارة الإغريقية أيّما إلهام”(13).

ويضيف: “إن الأهرام قصائد حقيقية، (خيام) مدهشة من الحجر الصوان، صوّر عالم بناه الإنسان، فعل إيمان بقدرة البشر، وهي تميط اللثام عن حضور (الله). يدل على ذلك جانب الوعظ الخلوق في الكتابات المنقوشة، ومثلًا: تلك التي توجد فوق ضريح: (لم أجعل أحدًا يبكي، لم أسبّب إيلام إنسان). أو تلك التي نقرؤها في (كتاب الموتى): أعطي الجياع خبزًا، والعطاش ماء، وكساء للعراة. إن الصالحين العادلين يتمتعون بنشوة الأرض، وإن الخلود ليرتبط بالأخلاق”(14).

وعن الفرعون (أخناتون) الذي ظهر في القرن الثالث عشر قبل الميلاد، يقول غارودي: “لقد قرر القضاء على الخصومات القبلية، وفرض في سبيل ذلك دينًا واحدًا وإلهًا واحدًا. لقد اخترع (أخناتون) التوحيد، وجهد لتحويل البشرية بتغيير وعي الإنسان بعلاقته بالإلهي”(15).

وإذا كان العرب مصدرَ حضارة الغرب، كما يقول غارودي، فما هو مصدر هذا الذي فعله الغرب، ويفعله اليوم بالعالم؟. يقول غارودي: “لقد نجم انفصام (الغرب) عن متابعة الشرقية بإفقار الإنسان، وغدا التباين قاسيًا بالنسبة للرؤية الشرقية عن العالم، وهي تؤلف بين حب الطبيعة، وبين التقوى تجاه الناس، وترفض الفردية الوهمية في مسعى انصهارها مع الطبيعة”(16).

تلك الفردية التي تحدث عنها غارودي ولدّت العديد من الظواهر المأسوية في تاريخ البشرية، ومن أبرز تلك الظواهر، ظاهرة الاستعمار، ذلك أن الرأسماليين الذين سيطروا على الدول القومية في أوروبا وجهوا شعوبَ تلك الدول لاستعمار شعوب الأرض، ونهب ثرواتها، وشنوا الحروب في مختلف أرجاء الأرض لتحقيق مصالحهم. يقول هارولد لاسكي: “بالرغم من أن الشعب بأكمله لا بد أن يُقحم في الحرب بعد بدئها؛ فإن هذا ليس هو الحال لا أثناء الاستعداد لها، ولا عند إعلانها، فهذا من شأن وكلاء الدولة الذين قد تختلف مصلحتهم في العمل الذي يقومون به اختلافًا تامًا، عن مصلحة الناس المفروض أنهم يتصرفون باسمهم، ومن أجلهم. فهم قد يخدمون أطماعًا شخصية، أو… ولأنه لا توجد أي وسيلة للحد من تصرفاتهم إلا وسيلة الثورة بكل أضرارها”(17).

ويفرّق لاسكي، بين الذين يطالبون بترخيص لتدمير المدنية باسم السيادة القومية، وبين الحرية القومية؛ فيقول ردًا على دعاة الحروب من الرأسماليين الذين يجعلون من المطلب النهائي للسيادة القومية ترخيص بتدمير المدنية، يقول لاسكي: “لا يمكنني الاعتراف بأن هذا مطلب ضروري لأي رأي عن الحرية القومية”(18).

هوامش ومراجع:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) و (2) السيادة- عبد الهادي عباس- مصدر سابق. صفحة 40.

(3) و (4) المصدر السابق. صفحة 37.

(5) المصدر السابق. صفحة 38.

(6) رادومير لوكيل- نظرية الدولة والحق. صفحة 583.

(7) و (8) المصدر السابق. صفحة 285.

(9)  عبد الله العروي- مفهوم الدولة- المركز الثقافي العربى الدار البيضاء- الطبعة الثانية. صفحة 146.

(10) حوار الحضارات- روجيه غارودي- ترجمة د. عادل العوا- منشورات عويدات بيروت. صفحة 17.

(11) و (12) و (13) المصدر السابق. صفحة 19.

(14) و (15) المصدر السابق. صفحة 21.

(16) المصدر السابق. صفحة 23.

(17) و (18) لاسكي- الحرية والدولة- مصدر سابق. صفحة 193.




المصدر