مـهرجان قـرطاج الـدوليّ: الإسرائيليون الجـــــــــدد؟


حاتم محمودي

لقد انقلب سلوكنا ضدّ الكيان الصّهيوني إلى كوميديا، من المؤسف أنّها لا تبعث حتى على الضحك؛ إذ بقدر تمسّكنا بتلك السرديات البالية للعُروبيين والماركسيين وغيرهما من الأصوليات، قديمها وحديثها، نحن لا نشغّل خطابها إلا من زاوية تعمّق الهوّة بين الفلسطينيّ وحرّيته، بل وتزيده اغترابًا، كما تكشف عن نوع من تأبيد محنتنا كمعارضة تسعى في مرماها إلى تقويض الحكومات العميلة، والخاضعة لسياسات الكولونيالية وبطش الإسرائيليين. لنعترف بأنّها مضادة أكثر منها معارضة، وإلا لماذا تشغّل النّضال كما لو أنه “مناحة” لا غير، فإذا بها تقدّم نفسها ضحيّة على الدوام، حتى إنّ عجزها الأبديّ يزجّ بها في كلّ مرّة داخل حظائر “عمالة لا مرئيّة”، لا تقلّ خطرًا عن أولئك الإسرائيليين الجدد من الخائنين الذين رفعوا نجمةَ داوود رايةً بدل راية المقاومة؟

سنتأكّد من ذلك، ونحن نتابع نوائر المعارك الدائرة حاليًا في تونس على خلفيّة مهرجان قرطاج الدوليّ في دورته الثالثة والخمسين، بعد أن تقرّر برمجة الفنان الكوميدي “ميشال بوجناح” وهو تونسيّ من أصول يهودية، يعيش في باريس، ومتعاطف مع الكيان الصهيوني، وفقًا لتصريحاته ومواقفه التي أدلى بها في أكثر من موقع.

أثبت هذا المهرجان فشله منذ إعلانه عن العروض المبرمجة التي شهدت سخريّة لاذعة من قبل معظم مواكبيه ومنتظريه، بوصفها مستهلكة وغير مجدّدة ومخيّبة لانتظارات الجماهير المتعطّشة إلى ثقافة مغايرة وبديلة. وما زاد الطين بلّة الإعلان عن حضور ذلك الفاشستيّ المذكور أعلاه؛ ما جعل الحقلَ الثقافيّ يسوده نوع من الغضب الجماهيريّ، ألقى بظلاله على الساحة السياسيّة والجامعيّة.

ليس ثمّة غرابة في أن يقف بعض المثقّفين والأكاديميين والباحثين، ليصرّحوا -بشكل سافر- عن دفاعهم وتبنّيهم “ميشال بوجناح”، فقد عوّدنا بعضٌ من هذه “الملّة” بتعاطفهم مع “إسرائيل” منذ فترة طويلة، سواء كان بطريقة مباشرة أو غير معلن عنها، لكنّ الغريب الذي يبعث على الدهشة فعلًا، يعود إلى تبنّيهم المنهج  البنيويّ في تحليلاتهم لأيّ ظاهرة، أي أنّ دفاعهم يجد منبعه في مقولة “موت المؤلّف” –المبدع-  بالنظر إلى أعماله دون اعتبار حياته الشخصية أو مواقفه السياسية، ولكنّنا لو استندنا فعلًا إلى ذلك المنهج، ونحن نسلّط الضوء على أعمال هذا الكوميديّ الفاشيّ، فسوف نتأكّد بأنّها أعمال مبتذلة، أو هي حتّى دون الصفر –إبداعيًا وفنّيًا- ما يؤكّد للمرّة الألف، أنّ هؤلاء لا يمكن النظر إليهم إلا بوصفهم أشبه بأولئك الكهنة الذين كتبوا التوراة اليهوديّة، وصاغوا البروتوكولات الصهيونيّة.

لا يفوتنا في هذا الإطار تسليط الضوء على المفارقات التي تضمنها موقف مدير المهرجان السيد مختار الرصّاع، ففي الوهلة الأولى صرّح لوسائل الاعلام بالقول: إنّه لا يعلم عن صهيونية بوجناح شيئًا. وهذا رأي، إمّا أنه يكشف عن جهل كبير بما يدور في الساحة الثقافية والسياسيّة، أو عن فشل ذريع لسياساته الإدارية، وبعد أن تمّ التأكيد له بالأدلة والحجج الدامغة، من خلال تصريحات “ميشال بوجناح” نفسه، كون هذا الأخير رجل فاشستي محض، صرّح بصفاقة مقرفة أنه ليس “صهيونيًا كبيرًا أو من قادة الصهيونية”، وربّ عذر أقبح من ذنب؛ هل ثمّة صهيوني من درجة أولى وآخر من درجة أقلّ؟ هذا رأي لا يمكن أن ينمّ إلا على خيانة سافرة، لا يمكن –بدورها- إلا أن تجعل هذا المدير يصطفّ في زمرة الإسرائيليين الجدد.

في المقابل، يقرّ البعض ببراءة هذا الكوميدي، معتمدين في ذلك حججًا تبعث على الضحك! كونه يحمل الجنسية التونسية، وكثيرًا ما عبّر عن حبه لهذا البلد، متناسين أنه هاجرها صغيرًا إلى فرنسا. ولا يفوتنا أن ننتبه إلى أن هؤلاء يمثلون -بشكل أو بآخر- الجناحَ الفرانكفوني في تونس، حتّى إنّ مواقفهم لا تتعدّى الخطوط الحمراء التي يرسمها “المقيم العام” الفرنسي (السفير) هنا، أو هي تجد اشتغالها في الساحة الثقافيّة، من حيث الارتباط بتوجيهات الدوائر الكولونيالية، وليس ثمّة دليل يفصح على ذلك أكثر من العقم الذي أصاب -أيضًا- “مهرجان قرطاج السينمائي”، بعد أن تحوّل من مهرجان للمقاومة إلى مهرجان استهلاكي وتجاريّ، بعد أن ارتبطت سياسات الدعم والإنتاج لديه، بالمصالح الغربية؛ ما قوّض توجّهه الثوري وأدخله حظيرة العمالة والتبعيّة.

من جهة أخرى، ليس ثمّة غرابة -أيضًا- في أن يُشغَّل الغضب الجماهيريّ ضدّ هؤلاء الأكاديميين وزمرة المثقفين، أو ضدّ إدارة المهرجان؛ فمن يدافع عن السياسات الإسرائيليّة كمن يدافع عن الدكتاتوريات أو الأصوليات الدمويّة! لكنّ الغريب -حقًّا- هو أن يتواصل هذا الغضب بالطريقة نفسها؛ إذ هو حركة “بافلوفيّة” السلوك، أقصى ما تطمح إليه هو شطب حضور ذلك الكوميديّ، بينما كان الأجدر بها كنس كلّ السياسيات التي لا تجرّم التطبيع، أو الإعلان عن مشروع ثقافيّ ضخم يعيد بهاء مهرجان قرطاج.

إنّ وجود “ميشال بوجناح” من عدمه، أمرٌ لا يجد اشتغاله إلا في المبتذل من الصراع السياسيّ، ولن يغيّر من حياة الفلسطينيّ والعربيّ شيئًا، وعلى الأغلب فإنّ رافضيه لا يتعدّى سلوكهم الغضبيّ -تجاه الكيان الصهيونيّ- إلا ضربًا من التطهير الأرسطيّ.

معارك من هذا القبيل، لا يمكنها تشغيل غير الانحطاط الثقافيّ الذي يسود مهرجان قرطاج برمّته، وهو انحطاط لا يقلّ خطورة عن “التطبيع” مع الكيان الصهيوني؛ إذ ليس ثمّة فرق بين إسطبل كرنفالي يشرّع للمبتذل والتجهيل، وعدوّ يفجّر أبناء الأراضي المحتلّة ويمزّق لحومهم الغضّة برصاصه؛ كلاهما نزعة عدميّة ضدّ الإنسانية، وكلاهما خَصْي للفكر الحرّ، كما أنّ هؤلاء الغاضبين -بوصفهم على حقّ- هم حتى الآن يخبطون في أودية عمياء، فثقافتهم الغضبيّة لم تتجاوز ردات الفعل! فإذا بها “كربلائية” السلوك، “يهوديّة الخطاب”، وهذا سلوك انهزاميّ، على الرغم من كونه يطفو أمامنا بشكل حركة نضاليّة.

إن عقد مشابهة بين هذا السلوك الغضبيّ والخطاب اليهودي والشيعي، لهو أمر يفصح عن مأساة هذا الغضب نفسه؛ فهو لم يتعدّ كونه غضبًا عدميًّا، بعد أن صار يقدّم أصحابه في صورة الضحايا لا في صورة الثوريين، أو لنقل إنّه غضب لا يجد مشروعيته، إلا من حيث تشغيل “المظلوميّة” كما كان سائدًا مع ذلك الخطاب الذي غذّته سرديات ومغالطات تاريخيّة وأنثروبولوجيّة عديدة.

وهكذا، ونحن نسلّط الضوء على سلوك الغاضبين ضدّ التطبيع مع الكيان الصهيونيّ، نكتشف أنّ غضبهم لا يعدو أن يكون نوعًا من الإقرار بالهزيمة، حتّى إنّنا نكتشف، في نهاية المطاف، أنهم ليسوا معارضين بقدر ما هم ضحايا، لا يقدّمون للعالم فعلًا مقاومًا، فأقصى حدود تشغيل رفضهم لا يتجاوز فعل المواجهة، وليس ثمّة شكّ في أن غضبًا بمثل هذا الشكل هو غضب بائس، ولا ينمّ بدوره إلا عن سلوك إسرائيليّ قديم في ثوب جديد.

فمتى نتخلّص من هؤلاء الإسرائيليين الجدد: سواء كانوا بيادق في يد ذلك الكيان الصهيونيّ، أو رجال معارضة لا فعل لهم غير لطم الصدور أو خلق “حائط مبكى” جديد، تسكنهم سرديّات اليهود والشيعة القديمة، بينما تخفي وجوههم سرديات العروبيين والماركسيين؟ وعليه سيكون الأجدر بنا جعل مثل هذه الكوميديا -التي نعيشها نحن أيضًا- كوميديا ضاحكة: إنّ الضّحك انحياز النّوع البشريّ الذي يؤمن بزراعة المستقبل!




المصدر