الفرائص التي تتقصف ذعرًا في “سورية الأسد”


هيفاء بيطار

لا أعرف إن كانت نعمة أم نقمة أنني لم أعد أخاف! وأن أسماء تلك الشخصيات التي كانت تتسبب لي وللشعب السوري بنُوبٍ من الذعر والخوف، صار بإمكاني التحدث عنها بشجاعة قد تقترب من التهور. المشكلة أنني أريد أن أفقأ عينَ الخوف، إذ لم أعد أستطيع التحايل على عقلي بتدوير زوايا الخوف والسكوت عن الخطأ. وقد يكون منتصف العمر هو عمر الثورة الحقيقية على الذات، وإعادة تشكيل الذاكرة على ضوء الحقيقة والكرامة. ما يمدني بشجاعة البوح والاعتراف هو القاسم المشترك الأعظم الذي أتشارك به مع شعبي الحبيب الشعب السوري الذي عاش عقودًا مهدور الكرامة والحقوق، وقد أطبق الخوفُ شفتيه، حين أستعيد تذكّر مرحلتي الجامعية أي دراستي في كلية الطب ست سنوات (كان عددنا وقتئذ 90 طالبًا فقط، في جامعة تشرين في اللاذقية) يُروعني أن أكثر من عشرين طالبًا من صفّي، ممن أعمارهم بين 21 و23 سنة، قد سُجنوا إما بتهمة سياسية كرابطة العمل الشيوعي أو لانتمائهم إلى جماعة الإخوان المسلمين! وكنت في بداية شبابي مُولعة بالفلسفة الوجودية، بحكم أن أمي أستاذة فلسفة، ولم أكن أفهم كيف يمكن لشبان وشابات في عمر البراعم أن يكونوا مجرمين، وأن يُسجن كل واحد منهم بين عشر سنوات وعشرين سنة، أحدهم سُجن عشر سنوات بتهمة الدفاع عن حقوق سجناء الرأي، وكانت زوجته حديثة الولادة وأصابتها حمى النُفاس، ثم سُجن أخوه ثلاث سنوات، لأنه لم يشي بأخيه! بالتوازي مع هذا الواقع كنّا ندرُس مادة القومية (المُرسّبة) في الجامعة، ونجعر بشعارات النفاق: “وحدة، حُرية، اشتراكية”، وكانت مُدرّبة الفتوة (التربية العسكرية) تجعر وهي تمسك مُكبر الصوت وتصرخ بنا: أقوى يا حيوانات، أقوى يا بهائم. وما بين كلمة حيوانات وكلمة بهائم، كنا نتلمس كأعمى في الظلام بقايا كرامتنا. وشهدت أنا -ابنة اللاذقيةِ المنُتهكة والمُغتصبة- أنواعًا لا تحصى من شذوذات أولاد المسؤولين وممارساتهم الساديّة، كأن يقدم فواز الأسد على تركيع جمهور من رجال المقاهي الكهول والعجائز تحت الطاولات في المقهى، ثم يُجلجل بالضحك وهو يطلق الرصاص في الهواء، أو يحلو له أن يمسك رجلًا لا على التعيين من الشارع، ويحشره في صندوق سيارته الخلفي ويدور به ساعة في شوارع اللاذقية، ثم يُعيده إلى النقطة ذاتها التي التقطه منها كحشرة، ويرمي له 500 ليرة. ولا يُمكنني أن أعد أسماء أصدقائي سجناء الرأي (هذه تهمتهم)، لأنني سأملأ صفحات، وقد التقيت معظمهم بعد خروجهم من السجن، مثل ياسين الحاج صالح، ومحمد حبيب، وحسان عباس، وياسر مخلوف (الذي سُجن 16 عامًا)، وكنت طوال الوقت أشعر صادقة أنني أريد أن أعتذر منهم، كما لو أنهم سُجنوا نيابة عني، وتسممت سنوات شبابي بإحساس فظيع بالقهر والظلم، والأهم الخوف. وكنت أهرب إلى القراءة أداوي مخاوف روحي، ويبدو أن القراءة جعلت مني شابة حالمة ومنفصلة إلى حدٍّ ما عن الواقع، ويكفي أن أروي تلك الحادثة: فحين كنت في الصف التاسع (الشهادة الإعدادية) وكان عمري 13 سنة، طلبت منا مُدرسة اللغة العربية أن نكتب موضوع تعبير، لا يزيد عن 25 سطرًا، عن امرأة أدّت دورًا مهمًا لشعبها، في ذلك الوقت لاحظت أن معظم صديقاتي كتبن عن الدور العظيم لأنديرا غاندي بالنسبة إلى شعبها في الهند، ولا أعرف أي وسواس غريب جعلني أكتب عن جولدا مائير (رئيسة وزراء الحكومة الإسرائيلية، إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر)، بوصفها زعيمةً خدمت شعبها، وسياسة “إسرائيل” المُغتصبة والمُحتلة. لا أبرر لتلك المراهقة التي كنتها، لكنني تلقيت تقريعًا مُروعًا من مُدرسة اللغة العربية، واتهمتني بالخيانة وانعدام الوطنية، وأنا كنت أحاول (وركبتاي تتقصفان ذعرًا) أن أشرح لها أن كل قصدي هو أن أكتب عن زعيمة خدمت شعبها بشكل مجرد. وآخر مشهد أتذكره أنها طردتني من الصف، بعد أن مزقت موضوع التعبير نتفًا. أتساءل الآن أما من طريقة عقلانية ومُتفهمة للجيل المراهق والشاب؟ ألا يوجد من أسلوب سوى الإهانة والتقريع والذم والتحقير والإحساس الدائم بالذنب! ألا يشعر كل مواطن سوري أنه مُتهم حتى يثبت العكس، وأنّ عليه أن يُقدم براءة ذمة للسلطة التي تحكمه.

أفكر الآن، وأنا في منتصف العمر، بعيدة لأسابيع فقط عن وطني الحبيب: “كم كان عمرنا مشوهًا وذليلًا”، وآلاف من زملائي في ربيع العمر غابوا ونُسوا في السجون لمجرد فكرة، لمجرد أنهم يُفكرون بطريقة مُختلفة. وحتى اللحظة ثمة آلاف من شبان سورية فرائصهم تتقصف رعبًا من خدمة الجندية والاحتياط كي لا يتحولوا برمشة عين إلى جثة تحمل لقب الشهيد البطل. ليس الموت عدوَّ الحياة، فالموت قدرُ كل كائن حي، لكن الخوف وحده عدو الحياة، وأنا قررت أن أفقأ عينَي الخوف كي لا أموت ذليلة، لأن أجمل شعار أفرزته الثورة السورية هو: “الموت ولا المذلة”.




المصدر