مِحَنُ المثقف العربي


بدر الدين عرودكي

أراد ابن المقفع الكاتب والمترجم وصاحب (كليلة ودمنة)، وهو في أوج شبابه، أن ينصح للخليفة المنصور، وقد تبوأ سدة الخلافة في أمور الجند والبطانة والخراج وما إلى ذلك من شؤون الحكم وأعبائه؛ فكتب كتابًا، على أنه كان سبب هلاكه، لم يشتهر به وهو كتاب (رسالة الصحابة). ويبدو أن مضمون هذا الكتاب هو ما أوغر صدر الخليفة على مؤلفه، فأسرّها في نفسه، إلى أن حانت فرصة وجد فيها ضالته، فأمر عامله سفيان بن معاوية المهلبي بقتله، وكان ابن المقفع -آنئذ- في السادسة والثلاثين من عمره. فهيأ له تنورًا، وألقى فيه بكل عضو من أعضائه، واحدًا بعد الآخر، أمام عينيْه، وقيل إنه أرغمه على أكل بعضها، حتى أتى على جميع جسده ثم أطبق عليه التنور.

لم أقرأ، بل لا أظن أن أحدًا من أبناء جيلي قد قرأ، هذه القصة التاريخية في أي كتاب مدرسي، ولا أظن، كذلك، أن أبناء الأجيال التالية قد ظفروا بقراءتها، وهم يقبلون على معرفة تاريخهم، ومن ضمنه تاريخ حرية الخطاب. من الواضح أن ذلك ينطوي، بطبيعة الحال، على أكثر من معنى ودلالة. يندرج ضمن ذلك -أيضًا- أن كتب التاريخ القديم التي سردت هذه القصة، في روايات متباينة في التفاصيل، اجتمعت -مع ذلك- على طبيعة السبب الذي حدا بالخليفة إلى الأمر بقتله، وهو سبب لا علاقة له -كما ورد- في كتاباتهم، بما كتبه في (رسالة الصحابة) الذي وجَّهَهُ إلى الخليفة من قبل!

على أن الأمر في تاريخنا لم يقتصر على ابن المقفع وحده. إذ واجه كتّابٌ وفقهاء آخرون ما واجهه. فبعضهم ذاق مرارة السجن والتعذيب كالإمام مالك بن أنس في المدينة، وبعضهم عرف السجن ثم القتل فيه مسمومًا كالإمام أبو حنيفة -وقد صارت محنته مضرب المثل- الذي لم يقبل أن يتبوأ منصب القضاء، مواجهًا إصرار الخليفة المنصور على قبوله، بإصرار لا يقل تصميمًا على رفضه؛ وبعضهم الآخر نجا، كالجاحظ، حين قال مبررًا هروبه، بعد أن ألقى الخليفة المتوكل بصديقه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات في التنور: “لا أريد أن أكون ثاني اثنيْن؛ إذ هما في التنور”!

ومع ذلك، كما لو أن هناك رغبة خفية لدى مؤرخي السلاطنة قديمًا وحديثًا -على وجه الاحتمال- في أن يشاع أو يذاع أن المثقف العربي أو الفقيه الإسلامي كان دومًا يسير حسب هوى السلطان، وفي أن أحدًا منهم لم يجرؤ على الخروج عن طاعته أو عن السير في ركابه. هذا على وجود أعدادٍ لا تحصى من أولئك الذين ائتمروا بأمر الخلفاء؛ فساقوا فتاواهم واجتهاداتهم على ما يُراد منهم أن يفعلوه، حين وظفوا، في سبيل ذلك، براعاتهم في التأويل، ومهاراتهم في لوي أعناق النصوص، أو في تثبيت سلامة هذا الحديث النبوي، أو في إنكار صحة ذاك.

لذلك، لا بد أن تُقال مِحْنَة المثقفين على أكثر من معنى لا على معنى واحد. محنة مفروضة، وهي تلك التي تنطوي على معاناة التنكيل والعذاب والإهانة وفقدان الحرية، وصولًا إلى القتل؛ ومحنة إرادية أو اختيارية، أي تلك التي تنطوي على دلالات أخلاقية بما تحمله من الخنوع والذل والاستزلام، يعانيها واعيًا أو غير واع من يقبل من المثقفين بشروطها، لقاء حفنة من مال أو نصيب من جاه.

عرف بعض مثقفي ماضينا التاريخي، كلٌّ على شاكلته، هذه المحنة أو تلك، لكن الذين حفظ التاريخ لنا أسماءهم، هم مَن اقترنت أسماؤهم بالمحنة، حتى قيل محنة أبي حنيفة، ثم يذكر أمثاله من بعده، ممن ساروا على غراره، في احترامهم لفكرهم ونفورهم من إغراءات السلطان أو الجاه أو المال. أما الآخرون فقد وضع التاريخ أسماءهم حيث يجب أن توضع، وترك أعمالهم تضيع في سراديب ظلماته.

وكأنما المحنة -في معنييْها- باتت تقليدًا تعجز السنون عن تغييره أو استبداله. فهو، على اختلاف الأنظمة والناس والمشكلات، لا يزال في جوهره حيًّا مستمرًا.

لقد رأينا في عصرنا الحديث أمثال هؤلاء وأولئك. رأينا كيف نُزِعَتْ عمامة العلماء عن رأس علي عبد الرازق، بعد صدور كتابه (الإسلام وأصول الحكم)، على أيدي أقرانه الذين كانوا يخضعون في سلوكهم للسلطان حينئذ، وكيف طرده هؤلاء من حلقتهم. وشهدنا كيف هوجم طه حسين، بعد نشر كتابه (في الشعر الجاهلي)، واستُخْدِمَ في نعته كل ضروب البذاءة، ولا يزال يتلقى مثلها من البعض حتى اليوم. كما رأينا كيف أن عبد الرحمن الكواكبي الذي لم يتردد في إعلان الاستبداد عدوًا، مندِّدًا بالذين يستكينون له خوفًا أو نفاقًا، ومهيبًا بالناس أن يثوروا ويستيقظوا؛ كيف عاش في منفاه المصري، وكيف لوحق فيه حتى قتله مسمومًا.

كان ذلك قبل ما سيقارب اليوم من مئة عام. لكننا نشهد الآن ما يكاد يفقأ العيون كل يوم، من صفاقة وتلفيق وكذب وممالأة من جهة، وضروب من التضحية، قلّ مثيلها من جهة أخرى. رأينا بأمِّ أعيننا كيف اعتقل وسجن وعذب وقتل مِنَ الشباب مَنِ ارتجلوا أنفسهم صحافيين في بداية الثورة السورية. ورأينا كيف انفجرت أصوات سورية بدَت جديدة لم يكن يسمع بها أحد من قبل، ملأت الصحف والمدونات. لكننا شهدنا في الوقت نفسه سدنة الأنظمة وخدّامها كيف وظفوا مواهبهم في التسبيح بحمدها، لا بل في تزييف الحقائق لصالحها، فضلًا عن ممارسة كل ضروب التنصل من المسؤولية وتزييف الحقائق العيانية.

محنة المثقفين، في معناها الحقيقي، يعانيها من فرضت عليهم نظم الاستبداد اليوم عذاب السجون، أو من أكرهتهم على الهجرة، فقبلوا بها كي يتمكنوا من متابعة عملهم، بعد أن قضى بعضهم في السجون زهرة سنوات عمره، أو كان بعضهم الآخر يعيش مطاردًا تحت طائلة السجن أو القتل.

المحنة ذاتها في صورة أخرى: أن يعاني كل مثقف يخلص للقيم الإنسانية، بعيدًا عن الهويات القاتلة والانتماءات الطائفية والمطامح الرخيصة، من عزلة قاتلة في سوق تهيمن عليه قيم السلعة والشهرة، وتديره أنساق الاستبداد في عالمنا العربي، بكل أطيافها وألوانها. هؤلاء وأولئك هم الذين أوتوا الحكمة، الحكمة في أجلى وأجمل معانيها الإنسانية.

لكن هناك المحنة الأخلاقية، الأشدّ وبالًا وفضيحة؛ تلك التي بات يعيش في ظلها طيف واسع من المثقفين والفقهاء والصحافيين، ممن نراهم ينتشرون فرادى في كتاباتهم، لكنهم يرددون في جوقة متناسقة الجملَ ذاتها و”الأفكار” ذاتها والشعارات المهترئة ذاتها، خدمة لأرباب عملهم، من سادة أو سدنة الأنظمة الاستبدادية التي تسود اليوم عالمنا العربي من مشرقه إلى مغربه. جُمَلٌ جاهزة، و”حِكمٌ” بالية، يرددونها صباح مساء على شاشات الفضائيات؛ إذ يُؤمرون ببثها، أو في كتاباتهم؛ إذ يطلب إليهم نشرها. لا فرق بينهم وبين النظم الشمولية التي عرفها العالم في القرن الماضي، حين اختفت التعددية، وغاب الاختلاف، وذاب الأفراد في كتلة واحدة متراصة تتخذ الوجه الذي يرسم ملامحه النظام الشمولي الذي تنتمي إليه.

مِحَنُ المثقفين العرب لا تزال تجسِّدُ اليوم هذا الواقع العربي في مختلف إشكالاته المأساوية.




المصدر