أقدارٌ كئيبة في دار العجائز


مصطفى تاج الدين الموسى

يبدو خلال ساعات الليل من نافذته في غرفة البوابة، وكأنه منفيٌ عن أحلام عبرتْ خياله، لكنه لم يعشها، العم هاشم: الحارس الليلي في دار العجائز.

تبدو له لياليه وكأنه حارسٌ لحكايات تبتكرها أرواحٌ هنا، لم تنل ــمثل روحه تمامًاــ حقها في أن تعيش حكاياتها الخاصة بها.

غرفته البعيدة عن بناء العجائز جانب البوابة الرئيسية لم تسمح له خلال سنوات أن ينسج صداقات حميمية مع العجائز؛ العجائز المتناثرين كأقدارٍ كئيبة بين غرف هذه الدار، صداقته الوحيدة الحميمية كانت مع السجائر وإبريق الشاي.

يأتي العم هاشم كلّ مساءٍ إلى الدار ليظل حتى الصباح، بين منتصف الليل والفجر يتجول بهدوءٍ كشبح بين الغرف، ليغلق إضاءة غرفةٍ نسي أحد العجائز إغلاق ضوئها، أو نام خائفًا من العتمة، أو ليمسك بلطفٍ كتف عجوز في دورات المياه، لا يزال يتأمل، بشكلٍ غامض، وجهَه في المرآة، بينما الماء المنسكب من الصنبور يعزف له الموسيقى التي يحبها في خياله، فيساعده العم بعد أن يقنعه بأن يصحبه إلى سريره.

عجائز هذه الدار أطفالٌ دونما أم أو أب.

ثمّة غرفة هنا تعيش فيها ثلاث عجائز، نساء لديهن ذاكرات مرتبكات جدًا، لا يستطعن أن يرتبن أحداث حياتهن بشكلٍ سليم، وفي حكاياتهن عن حياتهن السابقة لا يمكن أن يميزن بين ما حدث فعلًا وبين ما تخيلن حدوثه.

ذات ليلة، أمام غرفتهن انتبه العم هاشم لصوت خافت ومخنوق في العتمة، أصغى فانتبه لبكائهن المرير على أسرتهن تحت الأغطية، لكن كلّ واحدة منهن لم تنتبه لبكاء جارتها.

خطرت على باله فكرة، باح له بها خياله بعد أن رق قلبه لأحوالهن، قرر أن ينقذ العجائز الثلاث وينقذ ذاكراتهن، وأيضًا.. ينقذ وحشة لياليه هنا.

في غرفته البعيدة عند البوابة، وعلى طاولة متواضعة، كتب ثلاث رسائل حب، كلّ رسالة تبدو لمن يقرؤها وكأن من كتبها هو عاشق خطف الحب قلبه إلى عوالم من ألوان وموسيقى وشعر. وعلى كلّ رسالة كتب اسم عجوزٍ من العجائز الثلاث في تلك الغرفة. وقبل الفجر بقليل، تسلل بهدوءٍ إلى غرفة صاحبات الذاكرات المرتبكات، ليدسّ لهن الرسائل تحت الباب.

صباحًا انتبهتْ العجائز للرسائل فأخذتْ كلّ واحدة الرسالة التي عليها اسمها. مثل عاشقة سجنتها الأقدار الكئيبة في أغنية، قرأتْ كلّ واحدة رسالتها، وكأنها لا تزال في السابعة عشرة من عمرها، وقلبها يخفق ليرسم أمام عينيها ملامح عشيقها صاحب الرسالة، وقد أخذته الحياة بعيدًا عنها، لتظلّ يتيمة أغنياتها.

قبل كلّ فجر كان العم هاشم -بين بقايا العتمة وأوائل الضوء- يدسّ لهن الرسائل أسفل باب غرفتهن، لتمضي ساعات اليوم، وهنّ يقرأن الأوراق بفرح يصعب تفسيره، وفي المساء داخل الصالة مع بقية النزلاء المسنين، تشرح كلّ واحدة منهن قصة حبها للبقية، ثمّ تقرأ لهن رسالة عشيقها بمتعة، كما لو أنها أرضٌ تشرح للأشياء عواطفها برائحتها بعد هطول المطر.

بين صباحات هذه الرسائل ومساءاتها، كانت كلمات الحب على الأوراق تزين أيامهن، وكأنهن لا يزلن في السابعة عشرة، يقرأن كلّ سهرة رسائلهن على المسنين حول المدفأة، كما يحدث على خشبة مسرح لا فاصل بينه وبين الحياة أيّ ستارة.

الأولى: عشيقها يخوض حربًا عظيمة على حدود، وصورتها في جيبه، جنديٌ يقاتل في سبيل الحب.

الثانية: عشيقها على سفينة يُبحر إلى قارةٍ أخرى؛ حيث ينوي أن يصنع لها حياة تليق بجمالها.

الثالثة: عشيقها ثائرٌ يرتدي قبعة غريبة، في اجتماعٍ سرّي في قبو واسع، يشرح للفقراء -بلهفة أخ- بشاعة الحكومة.

مثل أبطالٍ في حكايات عظيمة، كان عشيق كلّ واحدة منهن، تتخيله عشيقته الهرمة التي لم تتجاوز السابعة عشرة من عمرها.

ذات يوم أصيب العم هاشم بمرضٍ شديد ألزمه بيته، ساعدته الأدوية على النهوض بتعب بعد أيام، ليرجع بعد غياب قصيرٍ إلى عمله. في تلك الأيام، انتبهتْ العجائز الثلاث لاختفاء رسائل الحب من عشاقهن. في خيال كلّ عجوز كان العاشق وكأنه قد تعرض لخطرٍ ما، لكن لم ينتبهن لغياب العم هاشم. (أحدهم يسرق رسائل حبي) همستْ إحداهن لجارتيها بريبة ذات صباح، عندما صفعها فراغ البلاط مجددًا عند الباب.

رجع العم هاشم للعمل كحارس ليلي هنا بعد أن تحسنتْ صحته قليلًا، وفي مساء رجوعه الأول، كتب ثلاث رسائل ثمّ تسلل خلسةً عند الفجر إلى غرفة العجائز الثلاث، انحنى بتعب ليدسّ الأوراق تحت الباب.

انتبهتْ عجوز لحركةٍ ما خلف الباب، أيقنتْ أنه سارق الرسائل، بسرعة لا تناسب عمرها، يمكن: تناسب أوهام قلبها، أخذتْ عصا المكنسة وهرولتْ إلى الباب لتفتحه.

كان العم هاشم لا يزال جاثيًا على ركبتيه، رفع رأسه بوهن، بين عتمة متواضعة لليل يتلاشى وضوءٍ بسيطٍ لفجر يولد، شاهد عصا غليظة تنزل عليه لترتطم بجمجمته بقسوة، مال جسده متألمًا ليتمدد على البلاط.

أسرعتْ جارتاها لتشاهدا جسد سارق الرسائل يتلوى متألمًا عند باب غرفتهن، تساعدن معًا في شد جسد العم هاشم، المغمى عليه، من أطراف معطفه الرث حتى الدرج الطويل ذي الدرجات الحجرية القديمة، وبصعوبة دفعن جسده ورجعن إلى غرفتهن.

في الصباح، عثر الموظفون هنا على جثة العم هاشم نهاية الدرج، خمّنوا أنه مات بعد أن سقط على الدرج خلال تجواله الليلي ليطمئن على نوم العجائز. بعض العاملين هنا مع بعض المعارف شيعوا جثته إلى قبرٍ متواضع في مقبرة المدينة.

كان هذا الشتاء طويلًا، وكأنه لا يريد أن ينتهي، خلال المساءات الماطرة وحول مدفأة الصالة بين المسنين، تقرأ ثلاث عجائز -دائمًا- رسائل قديمة لعشاقهن، رسائل كتبها لهن عشاقٌ لم يُخلق بعد أجمل منهم ومن صفاتهم، حدثتْ هذه الرسائل، وهن في السابعة عشر من عمرهن، منذ عقودٍ.

العجائز الثلاث وكلّ النزلاء هنا صدقوا حكايات هذه الرسائل، حتى العم يحيى الذي انضم إليهم في بعض المساءات، صدق هذه الحكايات.

العم يحيى: الحارس الليلي الجديد لدار العجائز.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ما سبق: ملخص بهيئة قصة قصيرة، لمسرحية لي لم تطبع بعد، تحمل العنوان ذاته) الريحانية 10/6/2017




المصدر