مازن حيدر يرسم الطريق إلى الروح


إبراهيم الزيدي

“لولا تنوع الروائح، وتعددها لتوفيت حاسة الشم”

لم يكن الدكتور مازن حيدر روائيًا، وإن كتب رواية، وليس صحفيًّا، وإن كتب في الصحافة، إنه -باختصار شديد- طبيب قرأ في ملامح الألفية الثالثة نبوءات العلم والمعرفة؛ فقرر القيام برحلة على الورق، حملت فيما بعد اسم رواية، رحلة كان الجسد الإنساني أحد أهم محطاتها؛ ذلك الجسد بكل معطياته، وما أضيف إليها من تكهنات، فنسي الأرض، ومن عليها: “أصبحت ذكريات لزيارة غريب، مرّ دون سؤال، ورحل دون أثر”، فتوهجت النار الخلفية لدمدمات الشك الديكارتي، وراحت الشخصيات كلها، تتحدث باسم الفلسفة التي يرغب بتأكيدها، وتبدع التأثيرات التي تحتاج إليها لتحقيق تلك الغاية!! فنزلت المعرفة على درج الذاكرة لتصل إلى صلب المعنى: “تساءلت الجماعة يومًا، سعيًا للفرح بمن وصل قبل.. البيضة أم الدجاجة؟ متناسية الديك!! فلم يكن مبعثًا للابتهاج، لأنه يذكرها بكل ما خضعت له من سلطات. أسقطت الجماعة صورةَ السلطة على الإنسان هربًا من مسؤوليتها، وحمّلته وزر أفعالها”، وكأن الهدف من رواية (الطريق إلى الروح) أن تكون حجر زاوية في حياة الأدب المحمول على أفكار علمية، “نظر إلى طرف الدماغ فرأى الأموات والتاريخ يعيشون عبر خلاياه، رأى إنسان الكهف يلعب بالأدوات، وأحداثًا كثيرة لم يعاصرها، وأناسًا من كل العصور، فسأل أحدهم: أنّى لك الدخول إلى عقلي؟ فأجاب: لم أدخل، أنا وجدت قبلك، وهذه هي الوراثة التي تشيرون إليها أنتم في الخارج”. لقد نأى مازن حيدر بنفسه عن سياقات السرد المتعارف عليها، وأثناء البحث، غالبًا ما كان يعثر على شيء آخر، مما يذكر باللعبة الصينية التي تحتوي بداخلها على لعبة مصغرة عنها، وهكذا. “أشعر بثقل في الرأس، كما لو أن الموت يسري في القدمين”.

تقوم أحداث الرواية على منطلق رمزي، في إطار فلسفي-علمي-تشريحي، في محاولة لكشف تأثير التفكير الماورائي على المنطق، في جدلية البحث عن الله، في صورة لا تحاكي أيًّا من الكتب القائمة على نقد الفكر الديني. تجسد الرواية عالمًا نصيًّا، يهدف إلى رمي الحجر في الماء الراكد، من خلال تحليلات علمية قائمة على التشريح: “في الفك السفلي تتجسد قراراتك ولحظاتك. الفك السفلي تجسيد للمتحرك فيك، والعلوي للثابت، إن أصاب المرض الثابت فتلك إشارة إلى مشكلة في الأصل، أما إن أصاب المتحرك فتلك إشارة إلى مشكلة في المسار”، وأخرى قائمة على إثارة الأسئلة “ليس الفقر في غياب الإمكانات، بل في غياب الاحتمالات”، وثمة محاكاة لمواقف ومخاطبات النفري تشيل لغة السرد من برودتها الحكائية، وتضعها في سياق الرشاقة للمقولات الصوفية، متخليًا عن السرد الروائي الخطي التصاعدي المتسلسل “عظمة اتساعي منعتك من رؤية تجسدي”، “الناس أسرى مراياهم”، “هرب الإنسان من الموت جعله يهرب من الحياة”، “جسدك الحقيقي يكمن في حقل الطاقة الكبيرة الذي امتلأت به عند الولادة، ليمتلئ بك بعد الممات”، “آلية عمل العقل البشري مبنية على الخطأ، فهو يعمل عبر خطأه الأساس لينتج صحيحه النسبي”..

تتوزع هذه المقولات كالشذرات في فضاء السرد، لتنعش عقل القارئ، حيث تُكثف الدلالة، وتثير لديه الأسئلة، دون أن تربطه بالواقع، أو تحيله إليه. وهي -أي الرواية- ككل إنجاز فني، مأهولة بقدرة الراوي على التمثل والاحتواء، والدكتور مازن حيدر يتمثل ثقافتين “العربية والفرنسية” وهذا ما جعله يتجاوز خواء التجربة اليومية، ويخرج من صيغة التطواف في العوالم الجغرافية، إلى الطواف على العوالم الداخلية، محللًا وناقدًا ومبينًا، آلية التفاعل التي يقوم بها جسم الإنسان: “يعمل العقل انطلاقًا من صورته، أي إفرازاته، فالعقل عضو كأي عضو في الجسد، له إفرازاته الخاصة، نسميها أفكارًا ومبادئ.. للكلى إفرازاتها أيضًا، والأمعاء، لا فرق في القيمة ما بينها على مستوى الجسد. أنانية العقل دفعته إلى تقديس إفرازاته على حساب كل الجسد!!” هذا الخروج على ذاكرة الرواية العربية، مسكون بكثير من الخيال العلمي، غير المحدود بالجغرافيا العربية للأدب الروائي.

إن الأسئلة التي تثيرها رواية (طريق إلى الروح) على مستوى البناء والموضوع، تقوض الرؤية الأحادية لذلك الفن الذي تجاوز كل الفنون انتشارًا، ومتابعة من قبل القراء، فالحقيقة أن الدكتور مازن حيدر يكتب بتوتر واجتهاد عاليين، ودون خوف. قد نتفق معه، أو نختلف، ليس هذا هو المهم، المهم تلك المغايرة التي تبناها في كل ما يكتب، مازن حيدر ليس لديه حضور كبير، لديه أسئلة كبرى.




المصدر