نهاية فكرة القائد/ الرمز في العمل السياسي السوري


حسام ميرو

شكّلت ظاهرة القائد/ الرمز في العمل السياسي السوري واحدة من أبرز ظواهره، فمنذ بدايات النشاط السياسي، وظهور الأحزاب في سورية، راحت تتكرّس تلك الظاهرة، وتفعل فعلها في تغليب الشخصي على العمل الجماعي، وقد عرفت مختلف التيارات الفكرية هذه الظاهرة كجزء لا يتجزأ منها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، بقي القائد الشيوعي خالد بكداش أمينًا عامًا لحزبه، على مدار عقود عدة، وهو الذي سّمي أمينًا عامًا للحزب الشيوعي السوري اللبناني في عام 1933، وبقي أمينًا عامًا للحزب الشيوعي السوري بعد انفصال الحزبين (السوري واللبناني) في عام 1943، إلى حين وفاته في عام 1995.

أكثر من ستة عقود من وجوده في منصب الأمانة العامة للحزب، كانت كفيلة بتكريس خالد بكداش كرمز شيوعي، وكقائد لحزب تاريخي، وقد انتقلت ظاهرة بكداش إلى الأحزاب السياسية التي انشقت عن الحزب الأم، ومنها الحزب الشيوعي السوري – المكتب السياسي، الذي قاده رياض الترك، منذ عام 1973، وكرّس نفسه كأحد القادة الشيوعيين المعارضين، ورمزًا من رموز الحراك السياسي في سورية، نظرًا إلى عدد من العوامل، منها أعوام السجن الطويلة التي قضاها في سجون حافظ الأسد، ومن ثم أعوام السجن في عهد الأسد الابن، ونال الترك مكانة مهمة بين المعارضين، استمرت إلى ما بعد الانتفاضة السورية في 2011.

وما ينطبق على الحزب الشيوعي الأم، وحزب “الترك”، ينطبق على “الحزب الشيوعي السوري الموحد”، وهو انشقاق آخر عن حزب “بكداش”، قاده يوسف فيصل، الذي سمّي أمينًا عامًا له، منذ عام 1986، حتى وفاته في عام 2012.

وعرف حزب البعث العربي الاشتراكي الذي وصل إلى السلطة في عام 1963 الظاهرة نفسها، وذلك مع تسلم حافظ الأسد قيادة الحزب والدولة في عام 1971، وقد بقي الأسد أمينًا عامًا للحزب حتى وفاته في عام 2000، حيث سعى على مدار عقود إلى تكريس نفسه كقائد/ رمز على نطاق قومي يتجاوز النطاق الحزبي الضيق.

القوميون السوريون أيضًا لم ينجو من تلك الظاهرة، على الرغم من موت الزعيم المؤسس أنطوان سعادة، وقد بقي سعادة زعيمًا للحزب، منذ تأسيسه له في عام 1932 إلى يوم إعدامه في عام 1949، وكان لإعدام سعادة دور مهم في تكريسه كزعيم نهائي للقوميين السوريين، على الرغم من الانشقاقات التي عرفها الحزب عبر تاريخه.

الناصريون السوريون، عبر حزب الاتحاد الاشتراكي العربي، كرّسوا جمال الأتاسي رمزًا لهم، وقد بقي الأتاسي أمينًا عامًا للحزب منذ 1970 إلى يوم وفاته في عام 2000، واستمرت مكانة الأتاسي كرمز إلى ما بعد وفاته، بل أيضًا ظل مبدأ تكريس القيادة التاريخية غير محددة الصلاحية، فقد خلف حسن عبد العظيم الأتاسي في منصب الأمين العام، وما زال في منصبه حتى الآن.

ولئن كانت هذه اللمحة التاريخية عن ظاهرة القائد/ الرمز في الأحزاب السورية القومية والشيوعية، هي لمحة مقتضبة، فإن الهدف منها هنا الإشارة إلى عمومية الظاهرة، وعدم اقتصارها على تيار محدد، مع التأكيد على أن الهدف ليس محاولة قراءة الظاهرة بنيويًا، وإنما العمل على فتح المجال في السجال العام السوري للنقاش حول أسباب تلاشي هذه الظاهرة مع الانتفاضة السورية، والوقوف على ما يمكن أن يقدمه اختفاء هذه الظاهرة من آفاق للعمل السياسي السوري في المرحلة المقبلة.

إن الانتفاضة السورية ليست فقط تمردًا على بنية الاستبداد، المتمثلة بالنظام السياسي، وإنما أيضًا تمثّل خروجًا عن سكة التاريخ السياسي العام، بكل ما يحمله من ظواهر، ومنها ظاهرة القائد/ الرمز، من دون أن يعني ذلك انتفاء الحاجة إلى فكرة القيادة، بوصفها فكرة مركزية في العمل السياسي.

ومما بات مؤكدًا، وقابلًا للاستشهاد به، أنّ الأحزاب السورية التقليدية لم تتمكّن من لعب دور مهم خلال السنوات الست الماضية، ليس على جبهة المعارضة فحسب، وإنما على جبهة النظام أيضًا، خصوصًا أن الانتفاضة انزاحت منذ نهاية عام 2011 نحو العمل المسلح، وفرضت معها جملة من الشروط الجديدة، والقراءات المنفعلة بالحدث.

كما أن جبهة العمل السياسي المعارض، بما تنطوي عليه من قوى مستجدّة على العمل السياسي، لم تتمكن من إبراز قادة فكريين وسياسيين يمكن أن يحظوا على إجماع شرائح واسعة من السوريين، وهو أمر يبدو طبيعيًا، ليس فقط نتيجة لحالة السيولة التي تمتّع بها المشهد السياسي السوري، بل نتيجة أيضًا لشروط تتعلق بمتغيّرات بنيوية في عالم السياسة نفسها.

لظاهرة القائد/ الرمز عدد كبير من الأسباب، وهي تنتمي في معظمها إلى عالم الأيديولوجيا وهيمنته على عالم المعرفة، كما أنها قادرة على التواجد والاستمرار في المجتمعات السكونية، حيث عبادة الرموز راسخة ومصانة، بقوة الأعراف والتقاليد الاجتماعية، ومن الطبيعي أن يكون لخلخلة هذا العالم السكوني أثر بالغ في تغيير مجرى النشاط الاجتماعي بشكلٍ عام، والنشاط السياسي على نحوٍ خاص.

إن الانتفاضة السورية، بكل تناقضاتها، شكّلت خروجًا عن سكونية التاريخ السياسي السوري، وما يتفرّع عنها من ظواهر، ومنها ظاهرة القائد/ الرمز في العمل السياسي، وفتحت الباب أمام إعادة تشكيل السياسة بوصفها نشاطًا جماعيًا، فيه الكثير من المعرفة، والقليل من الأيديولوجيا، ولا مجال فيه لعبادة الأفراد والرموز، أو قيادات تاريخية، وهو ما يمنح القليل من الأمل لمستقبل سورية، على الرغم من كل الظلام الذي يظلل اللوحة العامة.




المصدر