هكذا كانوا وما زالوا يحتالون على أهالي المعتقلين


ميشال شماس

منذ نحو ثلاث سنوات، قصدني شخصٌ تعرّض لعملية احتيال كبيرة، خسر نتيجتها مبلغًا كبيرًا، وطلب منّي مساعدته في إرجاع المبلغ الذي أخذه المحامي دون أن يفعل شيئًا. فقلتُ له: يا صاحبي يجب أن أسمع منك أولًا تفاصيل القصة.

أخذ صاحبنا يشرح قصته وكأنها حدثت للتو معه قائلًا: “بدأت حكايتي مع المحامي، يا أستاذ، بعد أن سمعتُ عنه أنه “يفك المشنوق”، وبعد أن تعرفتُ عليه، طلبتُ منه مساعدتي في البحث عن شقيقي المعتقل؛ وافق بعد أن قال لي إنه يريد ثلاثة ملايين ليرة سورية كأتعاب، واشترط أن يستلم مئتي ألف ليرة سورية عند تنظيم الوكالة، كدفعة أولى على الحساب، ثم أدفع له مبلغ 300 ألف عند حصوله على معلومات مؤكدة عن شقيقي ومكان اعتقاله، وأما باقي المبلغ فيجب دفعه عند إحالة شقيقي إلى المحكمة. طبعًا لم يكن أمامي إلا الموافقة على شروط المحامي، وبعد أن سجّل كافة المعلومات الشخصية عن شقيقي، بما فيها تاريخ ومكان اعتقاله، وتاريخ ميلاده واسم أبيه وأمه ومكان وتاريخ القيد في السجل المدني، ذهبتُ معه إلى مكتب الوكالات في القصر العدلي بدمشق، حيث قمت بتنظيم وكالة له، وبعدها أخذ مني مبلغ مئتي ألف ليرة سورية، وقال لي الآن أستطيع البحث عن مكان اعتقال أخيك، ثم طلب منّي أن أنتظر منه اتصالًا هاتفيًا”.

تابع صاحبي شرح قضيته: “وفعلًا بعد أسبوع اتصل المحامي بي، وطلب منيّ القدوم مع المبلغ المتفق عليه إلى مكتبه، بعد أن أبلغني بأن شقيقي ما يزال حيًا. سرّني هذا الخبر جدًا، وبمجرد انتهاء المكالمة اتجهتُ فورًا إلى مكتب المحامي غير مصدق ما سمعته بعد أن فقدنا الأمل، وفور دخولي إلى المكتب سألتُ المحامي بلهفة: كيف هو وضع شقيقي؟ وأين هو معتقل؟ وبعد أن ناولته المبلغ المتفق عليه، أجاب المحامي مبتسمًا: “أخوك حيٌ يرزق”، وأضاف بلهجة الواثق والعارف بكل شيء: إن أخاك معتقل في الفرع 215، وهو متوسط القامة وعيناه عسليتان ولون الوجه حنطي، ورقم هويته كذا وتاريخ منحها كذا، وهذه صورة هويته، وهو الآن بصحة جيدة، وسألني عن أختك الصغيرة (رويدة)، وفرح كثيرًا عندما علم أنكم تسألون عنه. هنا؛ بعد أن سمعتُ ما قاله المحامي فرحتُ كثيرًا وتأكد لي صدقه، فالمعلومات التي سمعتها منه لا يعرفها إلا من رأى شقيقي فعلًا وتحدث معه، فقلت للمحامي: حلال عليك المبلغ وتستحق أكثر من ذلك، لكن حالتنا صعبة وأنت تعرف ذلك”.

هنا قاطعتُ صاحبي بالقول: لقد وقعت في الفخ وبلعتَ الطعم، فالمعلومات التي ذكرها لك المحامي عن أخيك يمكنني أنا أن أقولها لك، وأي شخص آخر يستطيع الحصول عليها، بمبلغ بسيط من النفوس.

ردَّ عليّ صاحبي قائلا: “يا أستاذ، والله الغريق يتعلق بقشة، ونحنا ما خلينا حدا إلا وقصدناه وكلهم رفضوا مساعدتي، إلا هذا المحامي الذي سمعت عنه أنه واصل كتير ومدعوم.. المهم يا أستاذ، وبعد أن وضع المحامي المبلغ في جيبه، قال لي: إن موضوع أخيك صعب جدًا، ويحتاج إلى جهود ومبالغ كبيرة لتغيير مجرى التحقيق حتى أتمكن من إطلاق سراحه، وأنت تعرف لا أحد يخدم من دون دفع، وهنا سألته، وكم يكلّف ذلك يا أستاذ؟ رد المحامي قائلًا: أول شي لازم نشوف جماعة الفرع كم يريدون.. هناك المحقق والضابط المسؤول ورئيس الفرع، وهذا يحتاج ربما إلى أسبوعين، وسأتصل بك فور انتهائي من ذلك. ودعته على أمل أن يأتي بأخبار طيبة عن شقيقي. ومضى الأسبوع الأول والثاني والشهر الأول والثاني دون أن يتصل المحامي بشقيقي المعتقل، وكنتُ أتصل بين الحين والآخر به لأستفسر منه إلى أين وصل، وفي كل مرة كان المحامي يتذرع بوجود تشديد أمني، وأن عليه الانتظار بعض الوقت. لم يكن أمامي سوى تصديقه والانتظار فكل الطرق مغلقة أمامي”.

وهنا قاطعت صاحبي للمرة الثانية قائلًا: المحامي لا يستطيع زيارة أخيك في المعتقل، لأن المحامي ممنوع من مراجعة الفروع الأمنية، بشأن أي معتقل. ولكن ربما تكون له صلات مع أحد المحققين أو الضباط في هذا الفرع أو ذاك، وعرف من خلال علاقته وضع أخيك، ومن خلالهم، بالاتفاق معهم مثلًا، يقتنصون فرصة صدور “عفو من الرئيس”، أو عملية تبادل أسرى مع المجموعات المسلحة أو انتهاء التحقيق معه ومعرفة موعد إحالته للمحكمة، بهذه الطريقة يصطاد المحتالون والنصابون ضحاياهم. فمثلًا عندما يعرفون أن جرم أي معتقل مشمول بـ “العفو” أو أن دوره قد حان لإحالته الى المحكمة يبدؤون بالبحث عن وسيلة للاتصال بذوي المعتقل، ليخبروهم أنهم يستطيعون إخراج قريبهم من المعتقل أو إحالته إلى المحكمة مقابل مبالغ كبيرة كحالة أخيك تمامًا.

تابع صاحبي قائلًا: “وهذا ما حدث معي، يا أستاذ.. في نهاية الشهر الثاني على اتفاقي مع المحامي، اتصل بي وطلب منّي الحضور فورًا إلى مكتبه.. وعندما حضرتُ إلى مكتبه أعلمني أنه الآن يستطيع تغيير مجرى التحقيق، بعد أن تم تغيير الضابط المسؤول عنه، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى دفع مبلغ 500 ألف ل.س، يجب أن تدفعها اليوم قبل غد، فقد يتم تغيير الضابط المسؤول عنه ويأتون بآخر لا نعرفه، فقلت له: غدًا يكون المبلغ عندك. ولم تمض ثلاثة أيام على ذلك، حتى اتصل مجددًا ليعملني أنه استطاع تغيير مجرى التحقيق، وأن ملفّ شقيقي بات نظيفًا من أي تهمة إرهابية، وأكد لي أن ملفّه سيُحال إلى القضاء بتهمة خفيفة خلال أسبوع على الأكثر، كما أكد لي أنه فور عرضه على القاضي، سيطلق سراحه ما لم يكن مطلوبًا لجهة أمنية أخرى. وفعلًا لم يمض أسبوع حتى فوجئت بسماع صوت شقيقي يتصل بي من سجن عدرا، وأخبرني أنه بصحة جيدة، وسيتم عرضه على القاضي خلال أيام، وفور انتهاء مكالمتي مع شقيقي وأنا غير مصدق، قررت إخبار المحامي، إلا أن المحامي كان أسرع مني في الاتصال، حيث طلب مني الحضور لمكتبه وتسليمه باقي المبلغ المتفق عليه، بعد أن وفىّ بوعده كما قال، وفعلًا ذهبتُ إلى مكتبه ودفعت له باقي المبلغ بعد أن شكرته كثيرًا، وقلتُ له إنك تستحق أكثر من ذلك، لكن لم يبق معنا شيء بعد أن بعنا السيارة وأمي باعت “ذهباتها”. ثم سألته متى سيُعرض على القاضي؟ أجاب: خلال يومين ثلاثة بالأكثر. وفعلًا بعد ثلاثة أيام، فوجئنا باتصال هاتفي من شقيقي يُعلمنا فيه أنه أصبح حرًا، وهو في طريقه إلى البيت، وعينك تشوف يا أستاذ كم كانت فرحتنا كبيرة، عندما دخل شقيقي إلى البيت؟ لكن فرحتنا لم تكتمل، ففي اليوم التالي قال والدي لشقيقي: لقد اشتريناك من جديد يا بني، اشترينا حياتك وحريتك، لم يستوعب شقيقي ما قاله والدي، فسأله باستغراب لم أفهم ماذا تعني يا أبي؟ هل دفعتم مصاري من أجلي؟ رد والدي قائلًا: نعم، يا بني لقد كلّفنا خروجك ثلاثة ملايين ليرة سورية، أمك باعت ذهبها وبعنا السيارة واستدنا الباقي، وفداك كل المال المهم أنك حيّ بيننا؛ صُعقَ شقيقي مما سمعه، وقال بصوت عال: لم يساعدني أحد، لقد خرجتُ يا أبي بعفو من الرئيس، هذا ما قاله لي المحقق قبل أن يحولوني إلى المحكمة، وما زال كلامه يرنّ في أذني، عندما قال لي: (ادعي لربك وللسيد الرئيس الذي أصدر عفوًا عنكم، فلولا سيادته لما خرجتَ الآن). وهنا ساد صمت مطبق في البيت، بعد أن اكتشفنا أننا وقعنا ضحية احتيال ونصب كبيرة من المحامي الذي تبين لنا أنه لم يكن له أي دور في خروج شقيقي”.

هنا سألت صاحبي مجددًا: وماذا فعلتَ؟ ألم تحاول استرجاع أموالك التي دفعتها للمحامي؟ أجاب صاحبي نعم، لقد ذهبت إلى مكتبه وحاولت استرجاع المبلغ أو حتى جزء منه، بعد أن أوضحت له أن شقيقي خرج بعفو من السيد الرئيس، إلا أن المحامي غضب وبدأ بالصراخ مهددًا بإعادة اعتقال أخي واعتقالي معه.. وأكد أنه هو من قام بتنظيف ملفه حتى يشمله العفو وأن ما قاله المحقق له هو متفق عليه حتى لا يتم كشف عملية تغيير محتوى ضبطه الأمني.. عندها غادرت مكتبه، وأنا خائف فعلًا فقد يؤذي شقيقي أو أحدًا منا بتقرير للأمن.

وقبل أن يخرج صاحبي من المكتب مكسور الخاطر قلت له: بإمكانك أن تتقدم بشكوى للنقابة على هذا المحامي النّصاب، شرط أن يكون معك مستندات تفيد بأن المحامي قبض منك مبالغ بخصوص إخراج أخيك من المعتقل؟ أجاب صاحبي: لا يوجد أي شيء يثبت ذلك، سوى الوكالة التي نظمتها له، فقلتً له: عوضك على الله، وأعتذر منك لأني لا أستطيع مساعدتك في هذا الحالة، القانون يا صاحبي لا يحمي المغفلين، وكان يجب عليك أن توقع عقد أتعاب مع المحامي، قبل أن تدفع أي قرش له، وأن تأخذ منه ما يثبت أنه قبض منك أموالًا بخصوص أخيك المعتقل.

هذه حكاية من ضمن كثير من الحكايات والقصص الواقعية التي جرت -وما زالت تجري- أحداثها على أرض الواقع، ويخشى أصحابها الحديثَ عنها؛ إما خجلًا أو خوفًا.




المصدر