أيام مهرجان “كارلو فيفاري” السينمائي مع (ذاكرة بلون الخاكي)


علي الكردي

يُعدّ مهرجان (كارلو فيفاري) السينمائي الدولي من المهرجانات السينمائية العريقة في العالم، وقد تأسس عام 1946. وكان للأفلام السورية، وأفلام العالم الثالث عمومًا، حظوة في المهرجان زمن الاشتراكية. تغير الأمر بعد سقوطها، لكن المهرجان حافظ على أهميته، بل أصبح أكثر انفتاحًا على تجارب العالم السينمائية المختلفة.

رغم عشقي للسينما، وتجاوزي الستين عامًا ونيف، وعملي في الصحافة، وإعداد الأفلام الوثائقية، لم يُتح لي حضور أي مهرجان سينمائي، باستثناء مهرجان دمشق، الذي كنت أغطي فعالياته، بحكم إقامتي في المدينة.

فرحت مثل طفلٍ، يحصل على دمية يحبها، حينما اتصل بي الصديق إياد شهاب (مونتير) من بيروت، وسألني: ما رأيك أن نلتقي في مهرجان “كارلو فيفاري”؟! وأضاف: سيحضر الفوز طنجور من النمسا، ولؤي حفار من قطر، لأن فيلم (ذاكرة بلون الخاكي) مدعو للمشاركة في المهرجان.

على الرغم من توقي الشديد للحضور، ترددت للحظة؛ إذ كيف لي أن أذهب من دون دعوة رسمية؟! ألحّ إياد: حجزت في الفندق.. الإقامة متوفرة.. لا تتردد.

اتصل بي، في اليوم ذاته، منتجُ الفيلم الصديق لؤي حفار، لمتابعة حوار بيننا حول فكرة فيلم وثائقي جديد نشتغل على إعداده. قال لؤي: من الأفضل أن نلتقي في “كارلو فيفاري”، لمناقشة الموضوع مع الفوز طنجور وجهًا لوجه. وهكذا، حسمت أمري.

الطريق إلى كارلو فيفاري:

لفت انتباهي إلى حدّ الصدمة، بعد دخول الأراضي التشيكية، الفارقُ الكبير في البنية التحتية بين محطات القطارات الألمانية، والمحطات التشيكية. بدت لي الأخيرة، في بؤسها، وجدرانها الكالحة، وأرصفتها الترابية.. كأنها تنتمي إلى العالم الثالث!

صعدَت إلى القطار، قبل محطتَين من وصولي إلى كارلو فيفاري، امرأةٌ ثلاثينية جميلة، مع طفل في العاشرة من عمره تقريبًا؛ أسعدني جلوسها إلى جانبي، بينما جلس الطفل في المقعد المقابل، ثم تكوّر على نفسه، وغطّ في النوم.

بعد نحو ربع ساعة تقريبًا، وصلنا إلى كارلو فيفاري.

كانت المحطة خاوية.. بلا أرصفة.. الممرات ترابية، والبناء رمادي قديم. لا شيء يوحي أنني وصلت إلى مدينة سياحية مشهورة، بحمامات مياهها المعدنية الساخنة، ومهرجانها السينمائي الدولي. الفرق الوحيد، بينها وبين المحطات السابقة، أن أعمال الصيانة والترميم تجري فيها على قدم وساق، لإعادة تحديثها.

ما إن غادرتُ المحطة، حتى تغيّر المشهد كليًا؛ رحت في طريقي إلى الفندق أراقب الشوارع النظيفة، المنظمة، والأبنية ذات الطراز المعماري العريق. المدينة ساحرة فعلًا.. تغفو في حضن وادٍ، وتمتد أبنيتها إلى الجبال المحيطة، وسط مساحات خضراء. كان فندق (أمبريال) الذي ننزل فيه، يقع في قمة تلك الجبال التي تشرف على المدينة.. بناء ضخم من العصر القوطي، بمسحة كلاسيكية عريقة.

كان إياد شهاب بانتظاري، وبعد استراحة قصيرة بالفندق، اقترح أن ننزل إلى مركز المهرجان، لتناول الغداء، ولقاء الأصدقاء: الفوز طنجور، وزوجته ليندا، ولؤي حفار، قبل بدء العرض الأول لفيلم (ذاكرة بلون الخاكي)، في إحدى صالات المهرجان.

فضاء المهرجان:

كان لقاء الأصدقاء، بعد انقطاع أربع سنوات، دافئًا، حميميًا. يضجّ فضاء المكان، الذي يحتضن فعاليات المهرجان بالحيوية، وحركة البشر من مختلف الجنسيات. يمتد البساط الأحمر في مدخل بناء ضخم، لاستقبال النجوم. تنتشر على الجانبين كاميرات المصورين، فيما شاشة عملاقة تبثّ، على مدار الساعة، أخبار وفعاليات المهرجان.

لم يكن المكان مهيأً لمتعة السينما فحسب، بل لمُتع أخرى أيضًا، حيث تنتشر، في الفسحات المحيطة والحدائق والشوارع الجانبية، مقاهي الرصيف ومطاعم الوجبات السريعة، والبارات، والفرق الموسيقية، وأماكن الرقص والسهر. أينما توجهت، كانت تتصاعد أبخرة المياه المعدنية الساخنة من نوافير صغيرة، تشي بثروة المدينة من مياهها المعدنية التي يقصدها السياح من كل البلدان.

سهرة مع اللون الخاكي:

أعادني حضور الفيلم مساءً إلى صميم الوجع السوري المزمن. ذلك الوجع الملتصق بجلودنا أينما ذهبنا. أنا -أيضًا- مثل الفوز طنجور (مخرج الفيلم)، وملايين السوريين الذين عصفت بهم الأوجاع إلى خارج المكان.

راح صوت الفوز، مع اللقطات التمهيدية للفيلم، يتهادى بمسحة شعرية حزينة. يسرد ما تركه لون الخاكي من ندوب عميقة في روحه، وذاكرته المثقلة بالألم. يروي علاقته الذاتية بشخوص الفيلم المجدولة بخيوط الوجع ذاته. يسرد كيف رافقه كتاب إبراهيم صموئيل (رائحة الخطو الثقيل) في بداية سفره إلى دراسة السينما، ثم علاقة الصداقة التي نشأت بينهما. حكايات خالته أماثل ياغي، مع التخفي، والمطاردة الأمنية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ورحلة اغترابها التي حفرت وشمًا عميقًا في ذاكرة طفولته. تداعياته عن مدينته “سلمية” مدينة الشعراء، الغافية على أطراف البادية.. صالة سينما الزهراء العتيقة في “سلمية” التي أشعلت مبكرًا عشقه للسينما.. ذاكرة مدينته القريبة من مدينة حماة المنكوبة، التي فتحت الباب على علاقته مع الفنان التشكيلي خالد الخاني، ابن المدينة الغاضب الذي لا ينسى رائحة المجزرة، واقتلاع عيني والده (طبيب العيون)، ولون الخاكي الذي يغطي اتساخه أوساخًا كثيرة. يسرد علاقته المشتركة بالسينما مع شادي أبو فخر الذي عاد من باريس مع البدايات السلمية للثورة، كي يتظاهر، ويصوّر، ويوثق الأحداث. اعتُقل، وعُذّب. بعد الإفراج عنه عاد إلى باريس، مع تفاقم العنف، وعسكرة الثورة، وخسارة الأصدقاء.. تزخر شهادة إبراهيم صموئيل بالكوميديا السوداء، المضحكة–المبكية عن وطن جميل، حزين، حولوه إلى خراب!

مطلب صموئيل البسيط، أثناء اعتقاله في الثمانينيات، أن يُمنح السجين مساحة تعادل المساحة المخصصة لبقرة في حظيرة. مطلبه عام 2009 ألا تنقطع الكهرباء، أو المياه. ربما لن يفهم غير السوري المغزى العميق لتلك الرسائل التي راكمت الرهاب والمظلومية، وشعور السوري المرير بالاغتراب في بلده، بسبب الانتهاك اليومي لكرامته، وإذلاله.

دردشة جانبية عن الخاكي:

قلت للفوز، بعد مشاهدة الفيلم: لا أود الحديث عن إيجابيات، فهي كثيرة، سواء في الانتقال السهل بين الخاص والعام أثناء سرد الحكايات، أو بالحلول البصرية المحملّة بالدلالات؛ أريد السؤال أين وصلت علاقتك بالفيلم، بعد تنقله بين عدة مهرجانات دولية؟

“علاقتي مع الفيلم غريبة، باتت علاقة روحية!”. أجاب في نوع من الرضا، وتابع: “لأننا قلنا شيئًا مهمًا -من وجهة نظرنا- حول ذاكرة مشتركة، وتفاصيل عشناها: القمع، الخوف.. حاولت قدر الإمكان الابتعاد عن الخطاب المباشر، ومعالجة الموضوع، بطريقة سينمائية. منحني رأي النقّاد والمهتمين الذين تحدثوا عن الفيلم بإيجابية، جرعة ثقة مهمة”. وأضاف: “أعتبر الفيلم تجربة مفصلية، بعد مجموعة من الأفلام التي قمت بإخراجها. أحب أن أبقى على تواصل مع الكاميرا؛ لأني أرى الحياة من خلالها. أرغب دائمًا في صنع جرعات من السينما التي أحب. السينما تبقى.. التلفزيون يذهب”.

بعد عرض الفيلم في مهرجان دبي، وهوت دوك، وتورنتو، وكارلو فيفاري، مدعو للمشاركة في المسابقة الرسمية، لمهرجان (ياماغاتا) العالمي للأفلام الوثائقية في اليابان، وبعده إلى مهرجان (لايبزغ) في ألمانيا. الفيلم من إنتاج قناة (الجزيرة).

لمحات من المهرجان:

شارك في المهرجان ستون دولة، بينهم أربع دول عربية.

افتتح المهرجان (المسابقة الرئيسية) بالفيلم الروسي الروائي (اضطراب القلب) الذي سبق أن فاز، قبل ثلاثة أسابيع، بالجائزة الكبرى في مهرجان (كينو تافر) السينمائي الروسي.

الجائزة الكبرى للمهرجان كانت من نصيب الفيلم التشيكي (صليبي صغير)، وهو من إخراج فاتسلاف كادرنكي. ومُنح فيلم (دار المعوقين)، وهو من إخراج الروسي ألكسندر خانت، جائزة مسابقة “من الشرق إلى الغرب” المرموقة. وشارك في مهرجان هذا العام مئة وسبعون فيلمًا روائيًا، ووثائقيًا.




المصدر