لو دام الصمت الجليل


إبراهيم صموئيل

ما حاجتها فيروز إلى أغنية جديدة، أو مجموعة أغانٍ، تؤدّيها بصوتها؟! وما الذي يمكن أن تُضيفه هذه الأغنية أو مجموعة الأغاني إلى منجزها، أو أن يُنقصه عدمُ وجودها من صرح ما أبدعته في مسيرتها؟

هل تحتاج العظيمة فيروز، بعد ستين عامًا من الغناء، وثمانين عامًا من العمر، وما لا يُحدُّ من اتّساع شهرتها ونجوميّتها في مختلف أنحاء العالمين العربي والأجنبي، وما لا يُحصى من أقوال وكتابات النقّاد والدارسين والمتخصّصين وكبار نجوم الغناء العربي عن صوتها وغنائها وتجربتها الفنيّة.. هل تحتاج إلى أغنية يُستعار لحنها وكلماتها استعارة؟!

وهل الغاية -حقّا- هي استكمال مسيرة التجربة، ووصل ما انقطع، وإضافة جديدٍ ذي قيمة فنيّة وتعبيريّة لم يُقدَّم في منجز الأعوام الستين من عمر التجربة؛ أم الأمر لغايات أخرى ليس من بينها ما سبق ذكره؟ ما يمنح المشروعية للتساؤل أن الأعمال الأدبيّة والفكريّة والفنيّة ما إنْ تظهر وتُنشر وتُوزَّع حتى يصير الرأي فيه -أيًّا كان محتواه- حقًا مشتركًا بين المبدع والمتلقّي، كما هو معروف.

ولعل من اللافت والطريف أيضًا، في تجربة فنّية غنائيّة كتجربة فيروز مع الأخوين رحباني، أنها -لكثرة ما كُتب وقيل عنها- لم يعد فيها حيّزٌ لكلامٍ جديدٍ عنها، قد يخطر لناقد أو دارس إضافته، بل تبدو التجربة -لثراء ألحانها وتنوّعها، وروعة كلماتها وإبداعها- كما لو وصلت مرحلة الإشباع، فما من مطرح بَعْدُ لمستزيدٍ في اللحن أو الكلمات!

فهذه الملحمة الفنّية العظيمة لم تُمتع الجيلَ الذي عاصر بداية ظهورها في الخمسينيات فقط، ولا الأجيال التي تلت حتى يومنا، بل يمكن القول بثقة -ومن دون شطط ومُغالاة- إنَّ اكتناز التجربة وغناها سيُمتع أجيالًا قادمة أيضًا. ولا يهدف الكلام هنا إلى إضافة أيَّ جديد، وإنما يسعى إلى تأكيد بطلان المعنى أو عبث المحاولات، لدى هذا المُجرّب أو ذاك المجتهد بإلحاق اجتهاداته بمنجز الملحمة هذه.

حين لاذت فيروز بالصمت خلال السنوات الأخيرة الماضية، فلم تعد تظهر في المهرجانات، ولا على خشبة المسرح الغنائي؛ نَظَرَ العديدُ جدًا من النقّاد والدارسين وعشّاق فنها، بعين الإجلال والتقدير إلى قرار اعتكافها، لأنه نادر جدًا في عالم النجوم الكبار، وذهبيٌّ في اختياره للوقت.

أكثر من ذلك، بات صمت فيروز الجليل هذا مضرب المثل المضيء على أن بإمكان المبدع ألاّ يشتطّ في إنتاجه، ويتزيَّد كي لا يودي به إلى الدرك، وألاّ يعدَّ اعتزاله معيبًا أو مهينًا لموهبته، سواء كان نشاطه في الحقل الأدبي أو الفكري أو الفنّي أو الإعلامي، أو غير ذلك.

أيًّا كان الرأي في ما قدّمته فيروز أخيرًا، فمما تتَّفق عليه البداهة أن أيَّ إضافةٍ إلى منجز من الحقول السابقة لا بدَّ لها أن تتضمَّن مبرراتها الإبداعيّة، وإلا جاءت إلحاقًا وحشوًا واستطالة، لا اغتناء بها، ولا فائدة منها، ولا لزوم لها، وهو ما أشار إليه عددٌ من المبدعين العرب، في سياق مراجعتهم النقديّة لأعمالهم.

ذات يومٍ من عمرها المتقدّم، حُملت الفنانة صباح على أيدي عدد من الشبّان، وهي بكامل زينتها -كعادتها في صباها- ووضِعت على منصّةٍ أمام جمهورها، ثمَّ طفقت تُغنّي إحدى أغانيها الرشيقة عن الحبّ، حتى إذا ما انتهت عاد الشبّان لحملها والخروج بها. وكذا، حُمِلَ مبدعون كثيرون سواها -في غير حقلٍ- إلى منصَّات ومنابر ومطابع، بعد أن حملهم أفرادُ أسرهم والمُقرَّبون حَمْلًا على الغناء أو الكتابة أو الرسم أو الأداء، تحت يافطات بعناوين عديدة.

بلى، وثمَّة مبدعون كبار -وإنْ كانوا قلَّة- عرفوا، بفطنتهم وتنبّههم ورقابتهم لمسار تجربتهم، متى وكيف يتوقّفون عن الإنتاج وهم في أعلى نقطة من ذروة مجدهم؛ ليس بخلًا إزاء عشَّاق إبداعهم، ولا سوء تقديرٍ منهم لطاقاتهم ومواهبهم، ولا ظلمًا أو إهمالًا من أهلهم ودائرة المُقرَّبين حولهم؛ بل هو على العكس من هذا تمامًا.




المصدر