المخرج السينمائي


فيصل الزعبي

لأن السينما ورثت من المسرح الأداءَ والدراما وبناء الحكاية الفنية من خلال الممثل، ورثت –أيضًا- المخرج الذي يجسد الفيلم ويديره حتى خاتمته الفنية وعرضه للجمهور.

في تاريخ المسرح لم يكن في بدايته شيء اسمه المخرج، إذ كان مؤلف النص هو الكفيل والمخول في إنتاج العمل وإدارته وعرضه على المنصة؛ ومع الزمن انفصل المخرج عن كاتب النص، وأصبح له دور إبداعي يضاف إلى كاتب النص، ويفجر خياله على الخشبة، منسجمًا ومعبرًا عما يريده ويبتغيه كاتب النص وخياله الفني أيضًا، وكذلك في السينما انفصل المخرج عن كاتب السيناريو، وصارت مهنة الإخراج مهنة مستقلة، لها محترفاتها وأكاديمياتها، ومدارسها الفنية الإبداعية.

في معهد السينما، كانت هناك عبارة مقدسة تقول (من المستحيل تعليم الإخراج، ومن الممكن تعلمه). للوهلة الأولى، تجفلك هذه المقولة، لكن مع انخراطك في تعلم الإخراج “المستحيل”، تكتشف أنها حيلة فنية، إبداعية، تجعلك منفردًا في تشكيل شخصيتك الإخراجية، لتصبح متميزًا، لا تشبه أحدًا، ولا أحد يشبهك.

كان من شروط قبولك لدراسة الإخراج، عمرك الذي لا يقل -كالعادة- عن 18 عامًا. عليك أن تكون قد خضت تجربة حياة بطريقة ما، وامتحان قبول. وأسئلة وحوارات متواصلة، معرفيًا وثقافيًا، وتقييم تجربتك الحياتية التي ستوظفها لاحقًا في الدراسة والحرفة والإبداع المنفرد الخاص بك. كما أن مفهوم رصد الموهبة يكمن في قدرة طالب الإخراج على الخيال، وتجارب الرصد الذهنية للحياة والفنون الأخرى.

يقول ميخائيل روم، وهو أحد مؤسسي العلم الأكاديمي للسينما في بداية القرن العشرين، وأحد المخرجين المبدعين لأفلام خالدة: “الإخراج ثلاث لقطات: كبيرة ومتوسطة وصغيرة، أما السينما فهي ما تحتويه هذه اللقطات، وكيفية التعبير من خلالها، بحرفية وخيال”. وأذكر أن أستاذي في الإخراج “في معهد السينما”، كان يصنف تركيبة العاملين في الفيلم كالتالي: الفيلم سيمفونية موسيقية مسموعة ومشاهدة، كاتبه هو كاتب النوتة في السمفونية، والمخرج هو المايسترو، والممثلون هم العازفون.

إذًا المخرج هو “الديريجور”، ضابط اللحن والتناغم، وقائد المنتوج الفني، وكم من سيمفونيات قادها أكثر من مايسترو، وجعل منها عالمًا وفضاءً جديدًا.

السينما ما زالت طفلة، مئة عام من عمرها ليست بالعمر المديد، إذا ما تمت مقارنتها بالإبداعات الأخرى. والمخرج السينمائي هو كذلك أيضًا، ولديه الكثير من الزمن القادم كي يكون فيلسوفًا في الفن والإبداع، في ظل جنون هذا التطور المتسارع لعالم الصورة.

استلهام السينما لعدة فنون، وربما كل أنواع الفنون، يحتم على المخرج السينمائي أن يكون، ابن تجربة هذه الفنون المتحدة المتفرقة، ابن تجربة الحياة، ابن تطور الثقافات والأفكار وتزاوج الحضارة مع حضارة أخرى، وعلى عاتقه تقع روح التأمل والخيال والحكمة والانضباط والحرفية التي يتسارع تطورها العلمي والتكنولوجي يوميًا، بل لحظيًا.

المخرج يتبنى النص وينفخ في روحه، ويحوله إلى حيوات مقنعة ويبرر وجودها، ويعطيها ضرورات فنية لكينونتها، من خلال علم الأداء الفني. الصورة أداته التي من خلالها تظهر الفيلم لحيز الوجود. ومفهوم الحرفة للمخرج هو مفهوم مركب، إداري/ فني/ فلسفي. ويشكل هذا المثلث المفاهيمي وحدة عضوية واحدة. والمخرج الفذ هو الذي يتماهى ويتجلى بأدواته الفنية، يختفي تمامًا من خلال مفردات العمل الفني، وكأنه غير موجود، لكنه مسؤول عن كل تفصيل، في مجمل العمل الإبداعي.

إذا فشل الفيلم فهو وحدَه المسؤول عن ذلك، وإذا نجح فهو عمل جماعي متناغم شاركت في نجاحه الحرف الأخرى المكونة له، من مدير تصوير وممثل وفنان الديكور والموسيقي، وقبلهم جميعًا كاتب السيناريو.

لقد أنشأت التجارب التاريخية لصناعة الفيلم أكاديميات على هيئة ورشة فنية حرفية، يقودها ماستر “مخرج”، لديه التجربة المديدة، وطريقة عمل خاصة به لصناعة الفيلم. الأكاديميات المختصة بتعليم الإخراج تختصر تجربة مديدة، وربما عشوائية، في تعلم مهنة المخرج، وتصقل المواهب، وتنبه إلى ضرورة الرؤية الفنية للمبدع، لكن الحرفة التقنية للمخرج لا تكفي وحدها لصناعة فيلم ذي قيمة، فالمخرج هو فيلسوف فني، من الممكن أن يقوم بتغيير مجتمع بأكمله، وتتحول مقولات فيلمه إلى مقولات اجتماعية، وهو مناضل في حركة التغيير الاجتماعي، وصانع جمال، من الدرجة الممتازة، وراصد للحياة كمؤرخ، تنتظره أجيال قادمة أيضًا. فإما أن يكون خائنًا للحظة التاريخية، أو أمينًا صادقًا للحقيقة والجمال والمعرفة. يحمل على عاتقه فن الدهشة والإمتاع، وخلق متلقّ ذكي للجمال. وبالمحصلة، هو خالق لشيء مدهش وجميل لم يكن موجودًا من قبل.




المصدر