البيضا ورأس النبع، أربع سنوات على المذبحة

بعد أربع سنوات، لا تزال آثار المذبحة باديةً للعيان في شوارع قرية البيضا وبيوتها بريف بانياس، ويبدو أن مرتكبي المذبحة لا يريدون لها أن تُنسى بأن يتم مسح ذكرها من تاريخ البلاد، بقدر ما يريدون لها أن تُنسى عبر التطبيع معها، عبر جعلها من طبائع الأشياء:

– تقع قرية البيضا على بعد 10 كم جنوب بانياس في محافظة طرطوس، على جبل مطلٍ على البحر، وتتبع لها جميع الأراضي الزراعية الخصبة المقابلة لها حتى الشاطئ، وأكثرها خصوبةً وغنىً هي أراضي ومزارع «وطى البيضا» المملوكة في معظمها لأبناء القرية.

– كان يقدر عدد سكانها بنحو 7000 نسمة عام 2013، معظمهم من المسلمين السنة، وفيها حيٌّ مسيحي. وكانت قد شهدت احتجاجات مناهضة للنظام منذ آذار 2011، وشارك أبناؤها بكثافة في اعتصام بانياس الشهير، برز منهم ناشطون أشهرهم أنس الشغري وأحمد بياسي، واقتحمتها قوات النظام السوري واعتقلت العشرات من أبنائها في الثاني من أيار عام 2011.

– رأس النبع هو أحد أحياء مدينة بانياس، الحي الشرقي فيها، بيوته مطلة على أوتوستراد طرطوس-اللاذقية الدولي، وكان أبناؤه قد شاركوا أيضاً في الحراك السلمي المناهض للنظام عام 2011.

– كان عددٌ من أبناء البيضا قد انشقوا عن الجيش النظامي السوري، ولجأوا حسب الرواية الأكثر شيوعاً إلى قريتهم وأحراشها، والأرجح أنهم اشتبكوا مع قوة للنظام السوري فجر الثاني من أيار/مايو 2013 بعد مداهمة القوة لمكان تواجدهم في أطراف البيضا، وكان هذا الاشتباك ذريعة النظام السوري للهجوم على القرية.

– بعد الاشتباك، واعتباراً من الساعة السابعة صباح الثاني من أيار/مايو، حاصر الجيش النظامي السوري مدعوماً بميليشيا «الدفاع الوطني» وميليشيا «المقاومة السورية لتحرير لواء اسكندرون» القرية، وقام بقصفها بقذائف المدفعية والدبابات، وفي تمام الواحدة ظهراً دخلت قوات النظام وميليشياته أحياء البيضا دون مقاومة تذكر، فيما انسحب من كان قد بقي حياً من المسلحين القلائل الموجودين فيها إلى المزارع والأحراش المحيطة.

– تم اقتحام بيوت القرية تباعاً، وفصلُ النساء والأطفال عن الرجال، ثم تصفية الرجال بالرصاص، وإحراق عشرات الجثث في ساحة القرية الرئيسية ومحلٍ مجاورٍ لها. كما تم قتل عشرات النساء والأطفال أيضاً، وإحراق عدد من البيوت والمحلات بعد نهبها، ووثقت جهات عدة تنفيذ بعض عمليات التصفية التي شملت عائلات بأكملها بالسلاح الأبيض.

– في الساعة الخامسة بعد الظهر غادرت قوات النظام والميليشيات المرافقة لها القرية، وبعدها غادر معظم أهالي القرية الناجين دون أن يتمكنوا من دفن الضحايا، إلى الحي المسيحي وكنيسته، وإلى قرية المراح المجاورة المسيحية وكنيستها أيضاً، وإلى المزارع في وطى البيضا والكهوف والمغاور والأحراش المجاورة.

– في اليوم نفسه، قصفت مدفعية النظام السوري ورشاشاته الثقيلة حي رأس النبع في بانياس، وذلك رداً على ما قيلَ إنه إطلاق نارٍ تعرضت له إحدى حواجزه القريبة من الحي، ومنعت الحواجز أهالي الحي من مغادرته.

– في اليوم التالي، الثالث من أيار/مايو، عاودت قوات النظام السوري اقتحام البيضا شبه الخالية من سكانها، وتم نهب أغلب البيوت والمحلات في الأحياء التي كان يسكنها المسلمون السنة، وتدمير البنية التحتية ونهبها، ثم إحراق مئات البيوت بالكامل.

– في مساء الثالث من أيار/ مايو أيضاً، اقتحمت قوات النظام حي رأس النبع، وأعدمت عشرات المدنيين من النساء والأطفال والرجال، من بينهم عائلات بأكملها، ونهبت وأحرقت عدداً من البيوت والمحلات.

– في الرابع من أيار/مايو، سمحت قوات النظام لفرق الدفاع المدني والإغاثة والهلال الأحمر بالذهاب إلى البيضا ورأس النبع، وتم تجميع الجثث المتناثرة في قرية البيضا، ودفنها بشكلٍ جماعيٍ في حفرة بمقبرة القرية.

– تم توثيق أحداث المذبحة عبر عشرات التقارير الصادرة عن منظمات وجهات إعلامية مختلفة، أبرزها تقرير بعنوان لم يبق أحد، صادر عن هيومان رايتس ووتش في أيلول/سبتمبر 2013، وتقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

– وثقت هيومان رايتس ووتش أسماء 167 شخصاً قُتلوا في البيضا، بينهم 23 سيدة، و14 طفلاً. في حين وثقت أسماء 81 شخصاً قُتلوا في رأس النبع، بينهم 22 سيدة و29 طفلاً. أما الشبكة السورية لحقوق الإنسان، فقد وثقت 264 شهيداً في البيضا، بينهم 36 طفلاً و28 سيدة، و195 شهيداً في رأس النبع، بينهم 56 طفلاً، و43 سيدة. وتؤكد التقديرات وأعمال التوثيق والإحصاء التي أجرتها جهات أخرى، وروايات شهود العيان، أن الأعداد أكبر من ذلك، لكن توثيقها مستحيلٌ بسبب وجود عشرات المفقودين والجثث المحترقة بالكامل.

– نزح الناجون من المذبحة إلى بانياس المدينة، وشمالاً إلى جبلة وجنوباً إلى طرطوس، لكن لم يُسمح لهم آنذاك بدخول المدينتين، فانتشروا على طول الساحل أياماً طويلة، ليُسمح بعدها للأهالي بالعودة تباعاً إلى رأس النبع، لكن السلطات لم تسمح وقتها بترميم البيوت التي أحرقت.

– في البيضا لم يُسمح لأحد بترميم بيته أيضاً، ولم يُسمح حتى لأصحاب البيوت التي لم تحرق وتنهب بالسكن فيها، فبقي معظم أهلها في المزارع القريبة، عدا عائلات متفرقة أسعفتها علاقاتها أو ثروتها أو حظها، بالانتقال إلى مناطق أخرى خارج البلاد وداخلها، وبعضهم تمكن من الوصول إلى مناطق سيطرة فصائل المعارضة في الشمال.

– تم نهب وإحراق ما تبقى من قرية البيضا لاحقاً ببطء، وتعرض للضرب والطرد كل من فكّر بالعودة، كما لو أنه كان يُراد أن تتم إزالة «الأحياء السنّيّة من قرية البيضا» عن وجه الأرض، ويقدر ناشطون محليون عدد البيوت المحترقة والمدمرة بالكامل في القرية بنحو ألف بيت.

– ارتكبت قوات النظام مذبحة أخرى في البيضا في 22 تموز/يوليو من العام نفسه، عندما قامت بتصفية عائلة كاملة من 13 شخصاً كانت قد عادت إلى القرية.

– لم توافق مديرية التربية في محافظة طرطوس على تسجيل أطفال «البيضا» في مدارس قريبة من أماكن تواجدهم الجديدة خلال العامين التاليين للمذبحة على الأقل، لذا كان على التلاميذ الصغار أن يواصلوا تعليمهم قرب المذبحة، يصعدون السفح من السهل إلى القرية كل يوم، ويعودون في نهاية ساعات الدوام الرسمي.

– أكدت مصادر محلية للجمهورية، أنه بعد أربع سنوات، لم يعد إلى البيضا سوى نحو ثمانين عائلة، معظم أفرادها من الأطفال والنساء، ولا تزال عشرات البيوت والمحال محترقة وغير صالحة للسكن، فيما تبعثر أبناء البيضا في أنحاء البلاد والعالم.