عُصْعُص عطيّة


إياس الرشيد

سأحاول الحفاظ على رباطة جأشي، وأنا أكتب عن عطيّة، على الرغم من أن أصابعي ترتعش، وأشعر بالغثيان والقلق وبمجموعة ممتزجة من مشاعر متناقضة.

وفي كل ذلك؛ الذنب ذنبي.. عطية لا علاقة له.. أنا من أصرّ أن يكون صديقًا لعطية، هو كان يتملص مني دائمًا، ولكنني كنت أحاصرُه بالهواتف، وتقصدت أن أعمل في المدينة التي يعمل فيها، وأجلس كلَّ يوم في المقهى الذي يجلس فيه.

عطية كان شديد النفور مني، ولكنني كنت كائنًا دبقًا، يشعر أن معرفة عطية هي سقف العالم.

نعم… أنا لست سعيدًا، وأنا أكتب عن عطية، وربما تكون هذه الكتابة لحظات تطهُّر من تاريخي معه، وتشبه إلى حد ما ذهاب المسيحي المذنب إلى الكاهن ليبوح بذنبه، وها أنا اليوم أبوح بذنبي على الملأ.

والقضية باختصار: لقد عرفتُ عطية في يوم من الأيام. نعم لقد عرفت عطية.. أعرف أنها حقيقة مرة، ولكنها حدثت فعلًا.

وإذا كانت معرفة عطية هي الذنب الأكبر؛ فإن الذنب الذي يليه مباشرة، هو أنني كنت أكره اللحظات التي أجلس فيها مع عطية، وعندما تنتهي جلستنا، وأعود إلى المنزل، أظل في السرير ساعتين أنظر إلى السقف، وأقول: رحماك يا ربي، متى أتخلص من عطية؟

فكرت مرة أن أذهب إلى العمرة، وأمسك أستار الكعبة، وأدعو الله ضارعًا أن يخلصني من عطية.. مرةً قررت أن أقتلَ عطية. سأشتري سم فئران، وأضعه له في كأس الشاي عندما يذهب إلى حمام المقهى.. لا لا فكرة غبية. هل أتحول إلى مجرم من أجل التخلص من عطية!؟

ولكن المصيبة أن عطية كان مثل المغناطيس؛ ففي صباح اليوم التالي أجدني مهرولًا باتجاه المعمل الذي يشتغل فيه عطية، لألقي عليه السلام، ثم أنطلق إلى عملي بعد أن أُصاب بالغثيان من هذا اللقاء الصباحي، وفي المساء أحث الخطا مسرعًا إلى المقهى الذي يجلس فيه عطية.. المسألة معقدة، ولكن هذه هي الحقيقة.

السر في هذه الخلطة العجيبة، في علاقتي مع عطية، ليس في ترددي وجهلي وعدم قدرتي على اصطفاء الأشخاص.. لا. لا. المسألة أعقد من ذلك.. السر في عطية نفسه.

فعطية أشجع شخص رأيته في حياتي، وفي الوقت نفسه لم أرَ أجبن منه. كريمٌ إلى درجة أن يعيرك ملابسَه الداخلية، وربما يبخل عليك بقليلٍ من البول لتطفئ به النار.. عطية شهم وسافل، وصل به البر بأمه أن كان يحملها إلى المسجد لتصلي ويعيدها على ظهره، ووصل به العقوق أن ضرب أباه بحذاء، في عيد الفطر الماضي، أمام الناس، عندما كانوا في زيارة الموتى في المقبرة. عطية كذاب أشر يكذب على نفسه؛ كأن يقول: سأقوم للنوم؛ فيذهب ليدخن، وصادق إلى درجة أن يقول لك: أنا أكذب واحد في الدنيا. شديد الوسامة. وله رائحة عرق خبيثة، وكأنك تجالس تيسًا في موسم الإلقاح.

باختصار كثيف، عطية قمة التناقض، وهذا سر الانجذاب إليه، وهو سر الأسى الذي عانيته من علاقتي معه أيضًا، وكنت أحاول إخفاء علاقتي به أمام الجميع.

عطية أكثر من رجل، وأكثر من حالة.

عطية أبو الإيقاعات المختلفة، وآخر إيقاع حصل معه، إقلاعه عن العمل نهائيًا، وتذرعه بحجج واهية، حتى صار عبئًا على كل من يحيط به؛ ففي المنزل تحولت غرفته إلى مكب نفايات، فهو لا يغادرها، ويظل سراةَ اليوم يدخن، وينفض السجائر في كل مكان، وصار اسم عطية مشهورًا في البلدة؛ فقد استدان من كل من يملك مالًا أو من لا يملك.

أصدقاء عطية لم يتركوه في أزمته. الجميع همَّ في مساعدته؛ سواء في إعطائه المال، أو السعي لتأمين عمل له، ولكنَّ عطية في كل مرة كان يرفض عروض العمل.

عُرِضَ عليه أن يعمل سائقَ تاكسي، وسائق سرفيس.. عاملًا على مكبس بلوك.. مستخدَمًا في مدرسة، عاملَ نظافة في حي راق لا يأكل أهله البطيخة كلها، مساعدًا في جلسات قمار؛ أي ينقل للاعبين أرقام الورق، ويأخذ راتبًا على ذلك من صاحب الشقة، منظمَ دور في بيت دعارة في عشوائية حديثة، شاهد زور أمام محكمة قطنا، شاهد عدل في أمور الزواج. ولكن السافل عطية كان يرفض كل هذه العروض، ويصر على الجلوس عاطلًا عن العمل عالةً على غيره.

تحولت قضية عطية من قضية شخصية إلى أزمة بلد كاملة، وتداعى أهل الحل والعقد لبحث مسألة عطية.

أبو سليمان قال: زوجوه امرأة قوية تدوس على رأسه، وتربيه وتصنع منه رجلًا.. الأستاذ فوزي رفض هذا الرأي؛ فهو ضد العنف.

المختار أبو فراس قال: خذوه مشوارًا يوسع فيه صدره. أشْكَلَ هذا الوصف على الجميع، وقالوا بصوت واحد: كيف نوسِّع له صدرَه؟!! رد أبو فراس، وهو يأكل فلتر سيجارته: نأخذه إلى بيت أم عماد..

رد الجميع: أستغفر الله! علاج بالباطل، اتق الله يا مختار!!

رد المختار بضحكته الشهيرة: كخخخخخخخ

تدخل أبو عصمان أمين الفرقة الحزبية، لإنهاء الجدل قائلا: هناك طريقان لعلاج عطية. ردّ الجميع بصوت واحد: هات لنشوف يا رفيق أبو عصمان!

عطية تركبه مجموعة من السعادين الشريرة، يعني شياطين شريرة، يعني جني شرير.. يعني: جني واطي، مشرك، رجعي، كافر، انبطاحي، وحتى نخرج هذا الجني منه أمامنا طريقان:

الطريق الأول: نرفع تقريرًا لفرع المخابرات بأن عطية سبَّ حافظ الأسد، وهناك في الفرع سيضربونه، حتى يهرب آخر جني واطي من أظافره. ولكن هذه الطريقة خطرة؛ فهناك احتمال أن يموت تحت التعذيب.

والطريق الآخر نأخذه إلى شيخٍ يقرأ عليه، ويضرب الجني الواطي الساكن في عطية، وهنا احتمال الموت غير وارد أبدًا.

اتفق أهل البلدة على أخذ عطية إلى الشيخ (أبو هلال)، كي يخرجوا هذا الجني الواطي من جسد المسكين عطية.

كان عطية جالسًا على هامش جلسة المداولات، ولم ينبس ببنت شفة.

تم الاتصال بالشيخ (أبو هلال)، وانتخب أهل البلدة ثلاثة أشخاص من أفاضل البلدة؛ لأخذ عطية ومعالجته من الجني الواطي الذي يسكنه، ويمنعه من العمل.

بصراحة، كان موقف أهل البلدة التضامني مشرِّفًا.. أبو صالح وضعَ سيارته السوزوكي تحت تصرف اللجنة، وطلال تبرع بعصا غليظة لضرْبِ هذا الجني الواطي، وأم حسام ستشارك بالزغاريد لحظةَ خروجِ هذا الجني.

انطلق الجميع، ووصلوا بيتَ (أبو هلال).

المختارُ شرح القضية، وأبو هلال ينظر إلى جسد عطية كمن يعاين بقرة في سوق، ويهز برأسه، ويتمتم بعبارات غير مفهومة.

عطية صامت، وأعضاء اللجنة كأن على رؤوسهم الطير.

حك أبو هلال أنفه، وداعب شعر لحيته ثم قال: الجني الذي يسكن عطية جني واطي، ويسكن في العصعص، والطريق الوحيدة لإخراجه ضرب عطية على مؤخرته، ولكن هناك خطورة من هذه العملية، فنحن أمام عدة احتمالات.

إما أن يخرج الجني الواطي من إصبع عطية، وهنا الخسارة بسيطة، فقد يتهتك إصبع الإبهام، وعوضنا على الله.

الاحتمال الثاني: أن يتمترس الجني الواطي، ويرفض الخروج، وينتقل من العصعص إلى الدبر، وهنا الطامة الكبرى!

سألت اللجنة: كيف طامة كبرى يا شيخ؟؟

-يا إخوان، جني واطي موجود في منطقة الدبر، واضح أين الكارثة.. لا داعي للشرح!

-طيب يا أبو هلال: ما الاحتمال الثالث للخسارة.

سكت أبو هلال هنيهة، ثم قال: الجن مخلوقات نارية، لا تشبه طبيعة البشر، وتتغير حالتها وتتشظى، وأخشى أننا إذا ضربنا هذا الجني الواطي بعنف أن يتشظى إلى أكثر من واحد، ويلبس كل واحد منا جني، ونصير أوسخ من عطية.

طيب: أي احتمال أقرب يا شيخ؟؟

نظر أبو هلال إلى مؤخرة عطية، وقال: الاحتمال الأقرب أن يتمترس الجني في مؤخرة عطية.

قال الجميع بصوت واحد: على بركة الله؛ فلنبدأ العلاج.

جاء أبو هلال بلوح خشبي، وتمدد عطية على اللوح، ثم قام الرجال الثلاثة بتثبيت عطية، وبدأ الشيخ أبو هلال بضرب عطية بالعصا الغليظة، وهو يقول: اخرج أيها الجني الواطي من جسد عطية الطاهر، ودعه يذهب إلى العمل. وكررها عشرات المرات. وعطية يصرخ: أنا كذاب. أقسم بالله أنا كذاب، لا يوجد جني يسكنني، أنا أمثِّل لأنني لا أريد العمل. والشيخ أبو هلال يقول: الذي يتكلم هو الجني الواطي وليس عطية.. مسكينٌ عطية سلبه الجني كل شيء.

وعطية يصرخ: يا ابن الكلب يا أبو هلال أنا عطية، أنا من يتكلم.. واستمر الضرب، حتى خارت قوى عطية وأغمي عليه، وانتهت جلسة العلاج، وجلس الرجال الأربعة يلهثون ورائحة البخور تتصاعد.

عاد الرجال بسيارة أبي صالح السوزوكي، وظل عطية عاطلًا عن العمل حتى هذه اللحظة، ونجح الاحتمال الثالث، وتشظى الجني المقيم في عصعص عطية، ولبس الرجال الأربعة وأم حسام، ثم صارت انتخابات ديمقراطية في بلدتنا وتحولات سياسية، فصار أبو سليمان رئيس البلدية، وأبو عصمان أمين شعبة حزب البعث، والأستاذ فوزي مدير التربية، وأم حسام الأمين العام للاتحاد النسائي، وبدؤوا يعيثون فسادًا في البلدة، والناس تسبهم دون أن تعرف الحقيقة.

فعندما ترى أي تصرف ينافي الطبيعة البشرية، ومنظومة الأخلاق الإنسانية، وترى أحد هؤلاء يبلِّغ فرع المخابرات عن أمه، ويكتب تقريرًا في ابن عمه.. فلا تلمه، وإياك الظن أنه الفاعل؛ فالذي يحكم البلدة ليس هؤلاء، وإنما الجني الواطي الذي انتقل إليهم من عصعص عطية.




المصدر