المحرقة الثورية


نادر جبلي

لا أنوي في هذه المقالة الدفاع عن السيدة بسمة قضماني، ولا عن غيرها، إنما اعتبرت أنّ الحملة التي شُنّت عليها مؤخرًا مدخلٌ جيدٌ لهذا المقال.

فمنذ بضعة أيام، وبمناسبة انعقاد مفاوضات جنيف 7، انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي نصّ بيان موجّه من مجهولين، سمّوا أنفسهم “مجموعة من الشخصيات الثورية الحرة”، إلى المنسق العام للهيئة العليا للمفاوضات، وأعضاء الهيئة، يرفضون فيه رفضًا قاطعًا وجودَ قضماني ضمن الوفد المفاوض، ويُطالبون باستبدالها، بذريعة امتلاكها لأفكار خاصة متطرفة تريد فرضها على “ملايين السوريين، عرب ومسلمين، ابتداء من مهاجمتها للإسلام والقرآن، وليس انتهاء برفضها لعروبة سورية العربية…”، ويطلب الموقعون من الهيئة احترام “قرارهم” هذا، احترامًا لدماء الشهداء وتضحيات السوريين؛ وإلا فستفقد الهيئة “مصداقيتها وثوريتها في تمثيل الأحرار والثورة”، على حد تعبيرهم.

البيان محض افتراء، الغرض منه إحراق قضماني وإبعادها عن المجال العام، لأغراض لا نستطيع تأكيدها، وإن كنا نستطيع تقديرها، فهي لم تهاجم الإسلام والقرآن يومًا، إنما تريد إبعاد الدين عن السياسة والشأن العام، وفصل المجالين، كحال جميع العَلمانيين، ومنهم كاتب هذه الأسطر. وهذا، لمن يُدرك، خيرٌ خالصٌ للدين، الذي لا يعزُّه شيء مثل ابتعاده عن وحول الحكم والسياسية، والعكس صحيح. كما لم ترفض العروبة يومًا، العروبة كتاريخ وثقافة وفضاء حضاري، إنما ترفض الفكر القومي العروبي الذي لا يحتفظ بتاريخ مُشرِّف على صعيد هذه الأمة، ويضر أيما ضرر بتماسك الهوية الوطنية السورية.

ينقلني هذا إلى موضوعي الرئيس، فما حصل لقضماني هو نموذج لما يحصل على مدار الساعة لشخصيات سورية معارضة، بل لمعظم تلك الشخصيات، خاصة للجريء والمبادر منها، والمسكون بهم بلده أكثر من غيره.

إذن، نحن نعيش ما يشبه المحرقة، وإن كانت من نوع خاص، إذ لا جثث فيها ولا دماء ولا أفران غاز، إنما تُحرق فيها سُمعة الناس، ومستقبلهم السياسي، وقدرتهم على العمل العام، بل معنوياتهم وحماستهم ورغبتهم في العمل أيضًا. يجري ذلك من خلال التشهير بهم والطعن بأخلاقهم وشرفهم وتاريخهم… أو تسفيه وتحقير وشيطنة وتأويل كل ما يقولونه أو يفعلونه. باختلاق الأكاذيب والقصص المشينة عن فساد أو متاجرة بالثورة وبدماء السوريين، أو باتهامهم بالخيانة والعمالة للنظام بحكم عملهم السابق في إحدى مؤسسات الدولة، أو بحكم استمرار إقامتهم في سورية، أو بالعمالة للخارج بحكم خروجهم وإقامتهم في دولة ما.

أما القائمون على المحرقة، فسوريون ينتمون -نظريًا- إلى فضاء (المعارضة)، يبررون سلوكهم هذا بالغيرة والحرص على المصلحة الوطنية، أو مصلحة الثورة، أو بالوفاء لدماء الضحايا، أو بالانتصار للدين. لكن دوافعهم الحقيقية تتنوع بتنوع مشاربهم، فهم بين مزاود يريد رفع أسهمه عبر مزاوداته، وصغير يكبِّر نفسه عبر تصغير الآخرين، وتافه عديم الفاعلية والقدرة يبحث عن دور أو شهرة، ومأجور يخدم من استأجره، وعميل يخدم أسياده، وحاقد يعمل بتوجيه من حقده، وفاشل لا يحب رؤية ناجحين، ومشاغب يبحث عن تسلية، وسياسي يريد النيل من خصومه السياسيين، وإسلامي يريد النيل من العَلمانيين، وعَلمانوي يريد النيل من الإسلاميين، وطائفي يريد شيطنة طوائف أخرى، ومنهم أيضًا وطنيون حسنوا النية، يساهمون بالمحرقة بسبب قسوة أحكامهم، وعدم تفهمهم لظروف من أخطأ، وعدم تسامحهم معه، حتى وإن كان حسن النية شريف الغاية.

أما منصات الهجوم فتتيحها مواقع التواصل الاجتماعي، وهي منصات مجانية وآمنة وسريعة وعالية المردود، بحكم انتشارها الواسع، وحرية استخدامها، وانعدام الرقابة عليها، وقدرة مستخدميها على التخفي. أما الأساليب المستخدمة فقاسية ومؤلمة ولا تراعي حدًا أدنى من القيم والأخلاق وآداب السلوك والتعامل.

التهم جاهزة وسهلة التحضير، فمن انشقوا عن النظام، أو كانوا ذات يوم في إحدى مؤسساته، فهم تربية النظام، وعواطفهم ما زالت معه، أو هم عملاء مدسوسون من قبله، ومن يعيشون في الخارج فهم عملاء لهذا الخارج، تُحرِّكهم مخابراته، ويقبضون بالدولار ويعيشون حياة مترفة على حساب دماء السوريين، ومن بقوا في الداخل فهم من جماعة النظام حتمًا، وإلا لما بقوا خارج السجون، أما العَلمانيون فأعداء للإسلام والمسلمين، وأما من تجرأ على طرح فكرة أو مبادرة فيها بعض المرونة لتخفيف معاناة الناس فهو خائن للثورة ولدماء الشهداء.

مع الهزيمة وفقدان الأمل وتفاقم البؤس، وتسارع الأحداث وتعقيدها، يزداد سُعار المحرقة لسببين، الأول دخول حارقين جدد، وهم فئات جديدة من الناشطين غالبًا، وممن لعبوا دورًا في المشهد السياسي أو العسكري للمعارضة، ويريدون دفع شبهة الفشل والتسبب بالهزيمة عن أنفسهم وتحميلها لآخرين، خاصة أن ثقافة النقد الذاتي والمراجعة والمكاشفة والاعتراف بالخطأ غير متأصلة فيهم، ولا بد إذن من أكباش فداء تتحمل الوزر. أما السبب الثاني فهو زيادة عدد الخطّائين والأخطاء أيضًا، بسبب حالة اليأس والإحباط إياها، وغالبًا ما يكون هؤلاء الخطّاؤون الجدد من الناشطين المعروفين الذين يتحركون بنوايا طيبة، ومن باب الإحساس بالمسؤولية الوطنية، حيث يجدون أن من واجبهم المبادرة وفعل شيء ما، أو المشاركة بنشاط ما؛ فتكثر الأخطاء، وتكثر بالنتيجة فرص الاصطياد على جيش المتربصين الذي لا يني يتزايد.

من الطبيعي، والمؤسف في الوقت نفسه، أن يكون على رأس ضحايا هذه المحرقة شخصيات وطنية جريئة ومبادرة ومسؤولة، تُحاول فعل شيء وسط هذه الخراب المعمم، أما النتائج فكارثية، بدءًا بإضعاف معنويات وحماس تلك الشخصيات الإيجابية النشطة، ودفعها إلى اليأس والتخلي، وصولًا إلى بقاء مئات الشخصيات الوطنية القادرة والنظيفة وغير الملوثة في الظل، خوفًا من التقدم والمبادرة، والوقوع بالتالي بين أيدي حثالة لا ترحم. يحصل ذلك في الوقت الذي نحن فيه بأمسّ الحاجة إلى دماء جديدة وعقول جديدة نظيفة غير ملوثة تتقدم للعمل والمبادرة.

حول هذه النقطة أسوق مثالًا من الأمس القريب، ففي غمرة البحث عن شخصيات وطنية نظيفة وكفؤة وذات مصداقية، لتشكيل جسم وطني معارض جديد يستطيع تمثيل السوريين والدفاع عن قضيتهم، ويحظى باحترامهم واحترام العالم، كان رد كل من تحدثت إليهم، ممن رأيت أنهم يملكون هذه المواصفات، بأن الظروف غير ناضجة الآن للقيام بأي عمل، وأن من سيتقدم سيُحرق نفسه مجانًا.

نحتاج إلى وقف هذه المحرقة، أو تحجيمها، والحد من آثارها على الأقل، سواء بمحاربة القائمين عليها وفضحهم، والرد عليهم بقوة، أو بنشر الوعي عن دورهم ومخاطرهم؛ فالبلد بحاجة إلى كل أبنائه، ولا سيما إلى تلك الفئة النظيفة والقادرة، ولكن الكامنة خوفًا من محرقة تأكل الأخضر واليابس.

أما للحارقين، حسني النية، أصحاب الأحكام القاسية الحارقة المبرمة التي لا تقبل الطعن أو المراجعة، فأقول: إن الناس تخطئ بطبيعتها، ومن يعمل يخطئ، وبعض الخطأ نسبي مُختلف عليه، وليس كل من يخطئ سيئ النية، ومن يخطئ يتعلم، وليس هناك من لم يخطئ، فالوضع السوري متحرك ومعقد إلى أقصى حد، ولا يمكن مقاربته دون خطأ، وبعيدًا من سوء النوايا، والتي لا يمكن تفهمها والتسامح بشأنها، نحتاج إلى بعض التفهم والتسامح والرحمة تجاه بعضنا البعض، ونحتاج إلى تغليب حسن النوايا، والتماس الأعذار المخففة لبعضنا بدل الجنوح نحو تجريم كل خطأ أو تصرف والحكم على مرتكبه بالإعدام السياسي.

أقتبس من صفحة معارض يعيش في بلجيكا هذه الشهادة المعبرة: “أشهد بأنني توسطت يومًا ما، بتكليف من شخصيات ثورية وإعلامية كانت موجودة في قطر، لإقناع سفير سورية لدى بلجيكا والاتحاد الأوروبي بالانشقاق مقابل ضمانات وتبني، فكان جوابه لي: جيب لي واحد انشق وانحاز إلكم، وما همشتوه وخوّنتوه وشرشحتوه وشتمتوه… أن أبقى مع النظام خير لي من العيش ذليلًا مهانًا مهمشًا معكم“.

أخيرًا، أهمس لأصدقائي في الثورة والمعارضة، وأخص منهم من كان له دور في المشهد السياسي أو العسكري، قائلًا: إن المكاشفة والمصارحة والاعتراف بالخطأ ونقد الذات، هي فضيلة أخلاقية وسلوك نبيل، من شأنه أن يرفع من قدركم، ويعيد لكم شيئًا من السمعة والاعتبار والشرعية. ومن شأنه أيضًا أن يخفف من وطأة هذه المحرقة، ويقطع الطريق على وطاويط الظلام، والمزاودين والمتربصين وصيادي الماء العكر.




المصدر