المحلل السياسي يوسف فخر الدين: التراجع العسكري وحده لا يؤدي إلى زوال “داعش”


يشهد تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” في الوقت الراهن انحساراً كبيراً في مناطق سيطرته، لا سيما بعد خسارته لمدينة الموصل، ومحاصرة قواته في الرقة، بالتزامن مع حديث عن صراعات داخلية بين أفراده، وهو ما يفتح باب التساؤلات واسعاً بشأن مصيره.

وإزاء هذه التطورات كان طبيعياً اعتبار الكثير من المراقبين أن كل ما يجري هو مقدمات حقيقية لنهاية التنظيم، لكن المحلل السياسي، يوسف فخر الدين، يصرّ هنا على الربط بين زوال “داعش” وبين زوال المبررات التي أدت إلى وجوده، والتي من بينها فشل دول المنطقة على الصعد التنموية والاجتماعية، وبقاء القضية الفلسطينية بدون حل عادل، والإقصاء السياسي الذي تتعرض له شريحة سكانية واسعة في المنطقة.

وفي حواره مع “صدى الشام”، رجّح فخر الدين أن يلجأ التنظيم إلى حرب العصابات كخيار متاح له في حال نجح في الحفاظ على بنيته التنظيمية.

ومن جانب آخر اعتبر فخر الدين، أن نظام الأسد هو “الرابح الأكبر” من انحسار التنظيم.

وفيما يلي نص الحوار الكامل:

-منذ أن ظهر تنظيم الدولة، والسؤال عن طبيعته يتردد، واليوم ومع أفول التنظيم لا يزال السؤال قائماً.

“تنظيم الدولة الإسلامية” هو تتويج لمسار من مسارات الجهادية الإسلامية اندمجت فيه خبرات غاضبة (عسكرية، وأمنية) من الدولة العراقية التي حلّها الاحتلال الأميركي، وهذا الاندماج عجائبي إلى حد بعيد، فالجهادية الإسلامية في جانب منها هي رد على فشل الدول (التي أتت من إحداها هذه الخبرات) في تحقيق النمو والمشاركة السياسية وبقية وعودها، وما كان ليتحقق هذا الاندماج لولا الاحتلال الأميركي، وتدميره الدولة العراقية، ولولا النفوذ الإيراني الذي يقارب أن يكون احتلالًا (والنظام الإيراني فعل كل شيء من أجل تكريس إثارة الصراع الطائفي في العراق، وعموم المنطقة، كونه شرطًا لازمًا لتمدد نفوذه، بما في ذلك قمع الانتفاضة الشعبية في العراق عام 2013 التي طالبت بالمشاركة السياسية، وهو حينها أيضًا سهّل هروب آلاف المتطرفين من السجون بغية سحق الحراك الشعبي المعتدل، ومن هؤلاء الهاربين قادة “تنظيم الدولة الإسلامية”). وتحت ضغط الاحتلالين، الأمريكي والإيراني، للعراق، نتج “الإحباط السني”.

– بعد التراجعات الأخيرة للتنظيم، ومنها خسارته في مدينة الموصل، ومحاصرة قواته في الرقة، هل نشهد بداية زواله؟

يرتبط مستقبل التنظيم -وأنت تتحدث عن “زوال”- كما حركات الجهاد الإسلامية إجمالًا، بالظروف والعوامل التي أنتجته، فهذه القوى نشأت في سياق تاريخي من جملة عوامل منها: فشل الدول في المنطقة (وكان مبرره الأبرز أن أغلبها علماني) في مختلف المجالات من التنمية والمشاركة السياسية، وصولًا في نهاية المطاف إلى عجز السلطات الحاكمة عن إعادة إنتاج نظمها السياسية التي كانت تضمن لها الاستقرار السياسي، ومنها القهر الوطني/ القومي نتيجة هزيمة حزيران، والفشل في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وهو القهر الذي تزايد بشدة في العراق وبلاد الشام نتيجة الاحتلال الأمريكي للعراق، وتدميره الدولة العراقية، وما تبع ذلك من نفوذ إيراني، ولاحقًا مجريات الصراع في سوريا.

وبناءً على كل ذلك، فإن ربط زوال التنظيم بتراجع عسكري، مهما بلغت فداحته، هو أمر غير منطقي، لأن بقاء “الإحباط السني”، وتعمقه، يزيد من فرصة بقاء التنظيم بشكل ما، وعلى كل حال هو سيؤدي إلى بقاء الحركات الجهادية الإسلامية المتطرفة بمسمياتها المختلفة، ومضمونها ونتائجها المتشابهة.

 

– هل تقصد بقاء التنظيم كقوة عسكرية، أم ماذا؟

أتحدث هنا عن ظروف مناسبة للاستمرار، بغض النظر عن شكله، فالتنظيمات السياسية لا تزول إلا بزوال المبررات التي أدت إلى وجودها،
واليوم هناك قطاع واسع من سكان المنطقة يعتقدون أنهم حُرموا من الحرية ومن المشاركة السياسية بسبب تنسيبهم لطائفة معينة، وهو تفسير سهل وأحادي، في مقابل التفسير السياسي المعقد الذي يمكن أن يصف بدقة واقعًا معقدًا، وهذا الاعتقاد يلقى دعمًا كبيرًا من مجريات الأحداث التي نشهدها منذ ست سنوات، فالرد على مطالبهم بالمشاركة السياسية كان تدمير حواضرهم وتهجيرهم وقتلهم واعتقالهم من قبل خصم يعلن جهارًا طائفيته، ولنا مثال على ذلك ما جرى مؤخرًا في “الموصل” التي تشهد الصور والفيديوهات القادمة منها أنه لم يجرِ تخليصها من تنظيم الدولة وحسب (الحقيقة لا يمكن الجزم فيما إذا كان قد تم التخلص منه حقًّا، أم إنه بقي في المنطقة بأشكال أخرى) وإنما من سكانها أولًا (مصادر رسمية تحدثت عن مقتل نصف عدد السكان والبالغ مليونين، ويمكن توقع أن يكون العدد أكبر).
إذًا، ماذا علينا أن نتوقع من هؤلاء المنكوبين؟ وهل ننتظر منهم الاعتدال؟ أو أن يكونوا ممنونين لمن حاول جعل مدينتهم  أثرًا بعد عين، وقتل وتشريد الكثيرين منهم؟

– لكن بالمقابل لدينا شواهد تشير إلى عكس ما تحدثت عنه، منها على سبيل المثال المناطق التي تحررت من سيطرة التنظيم في ريف حلب تشهد اليوم استقرارًا وحركة عمرانية، على الرغم من دمارها بشكل كبير نتيجة المعارك التي مهدت لدحر التنظيم منها، فما رأيك؟

لا يمكن المقارنة بين نتائج محاربة التطرف من قبل مسبّبي التطرف، وعلى حساب -في كل الأحوال- السكان، وبين أن يقوم أبناء هؤلاء السكان بقلع شوكهم بأيديهم، حيث نجد السكان في الحالة الثانية أكثر تقبّلًا لخسائرهم (التي ستختلف نوعيًّا)، مع العلم أن تصنيف “أبنائهم” تحدده القوى السياسية بنفسها عبر سلوكها، فمن يهجرهم ويدمّر قراهم حتى لا يعودوا إليها هو من يحدد نفسه كغريب، ونحن شهدنا عكس ذلك من القوات التي انضوت في “درع الفرات”.

-هل يمكن أن تشكل الأراضي السورية خيارًا للتنظيم بعد خسارته الموصل؟

إن استطاع تنظيم الدولة أن يحافظ على بنيته التنظيمية، وعلى التحكم والضبط داخلها، قد يغير من استراتيجيته العسكرية ويلجأ إلى حرب العصابات متحركًا عبر الحدود التي لا يعترف بها، وهو بكل الأحوال يراهن في الدرجة الأولى على أن يستمر أعداؤه في نهجهم الدموي تجاه مطالب الناس، ما يبقي له فرصه للاستمرار بشكل ما.

– لكن التنظيم لم يحصل على التفاف شعبي في كل المناطق السورية التي سيطر عليها. ما الذي يبطل هذه المراهنة؟

ما يتم تداوله بهذا الصدد ليس كله حقيقة، فهناك الكثير منه، ذلك يدخل ضمن الدعاية السياسية، متابعتنا للموضوع تقول إن هناك تباينات وتبدلات في المواقف بحسب اعتبارات مختلفة ترتبط بالزمان والمكان وتغير الأحوال، وقد كان هناك بالتأكيد من ناصبوا التنظيم العداء منذ البداية، فالمجازر التي قام بها، ومنها مجزرة عشيرة الشعيطات (التي راح ضحيتها 700 رجل)، تؤكد ذلك، إلا أنه بالمقابل هناك من وجد فيه ضبطًا للفوضى، وتعبئةً للفراغ. هناك مثلًا من قال عنه إنه الطرف الوحيد في سوريا من خارج دولة نظام الأسد يمتلك بعض ملامح الدولة، والكثير من الناس في مناطق سيطرته الحالية أوالسابقة، لم يأخذوا موقفًا نهائيًّا منه. وإن طبيعة الطرف الذي يقاتل التنظيم اليوم، وكيف يقاتله وحجم الأضرار التي لحقت بالسكان عامةً جراء ممارساته، وطريقة تعامله معهم وحجم الدور الذي سيترك لهم لحكم أنفسهم، سيحدد موقفهم.

– والحال كما ذكرت، من هو المستفيد الأكبر من انحسار سيطرة التنظيم؟

المشهد لا يزال معقدًا تتحرك الأطراف فيه صعودًا ونزولًا، والمناطق السورية تُقسم عبر التنازع، ويعاد تقسيم بعضها كمناطق نفوذ لأطراف دولية وإقليمية.

الكل يحاول أن يكون مستفيدًا أكبر، من دون أن يكون هناك إمكانية قول نهائي في هذا الصدد، ويبقى أن الشعبان السوري والعراقي هما خاسران على طول الخط.

بالطبع ما تبقى من النظام الأسدي الذي كان يخسر المنطقة تلو الأخرى مع بداية ظهور التنظيم، من الواضح اليوم أنه بمعية قوة حلفائه (وبقبول أميركي بمعظم المناطق، مع منعه من قلة منها) قد سرّع وتيرة عملياته العسكرية للسيطرة على المناطق التي ينسحب منها التنظيم، ولكن هناك الكثير مما يبرر الاعتقاد بأنه لم يعد أكثر من أداة يتقاسمها الإيراني والروسي، وربما يحتدم الصراع بينهما عليها لاحقًا.

– هل تمتلك الأطراف الدولية المتنفذة في الملف السوري تصورًا لمرحلة ما بعد التنظيم؟

حتى اللحظة لا يظهر أن الأطراف الدولية المؤثرة في الوضع السوري لديها اقتراح لحل قابل للتحقق.
لا يزال الأمريكي يعمل على إدارة الأزمة، وهذا هو الحال منذ اليوم الأول للثورة السورية، للاستفادة منها في مواجهة “تحالف الممانعة” الذي يضم روسيا وإيران، ولكنه يقوم بذلك بحذر خشية الانجرار إلى التصادم معهما، وهو لا يتردد عن محاولة دفعهما للتنازع، لذلك يماشي الأمريكي أحيانًا الرغبة الروسية الجامحة لتأدية دور موزع العطايا، ومدير مصالح الأطراف الخارجية في سوريا، ولكنه يعود ليعاندها لمنعها من تكريس وقائع، أو لفرض وقائع عليها، ومؤخرًا وبينما كان الأمريكي يتفق مع الروسي على المنطقة الجنوبية الغربية على هامش قمة دول الاقتصاديات العشرين الكبرى (G20) في هامبورغ بألمانيا، يمرر الأمريكي كلامًا مفاده أن لا علاقة له بإعادة إعمار سوريا.
إذن عليك أن تتصور ماذا يعني ذلك، فروسيا متسوّل كبير بقدرة عسكرية عملاقة، وإيران -إلى الآن- لم تخرج من الحصار الأميركي وآثاره.

– تستمرّ مؤسسات مستقلة دولية في اتهام أطراف بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا والعراق، هل تعتقدون أن المجتمع الدولي سيبقى يؤجل محاكمتهم؟

المجتمع الدولي اليوم محكوم بدول كبرى تمارس سياسات استعمارية، وتجدها تتواطأ بين بعضها على التغطية على جرائمها.
فيما يتعلق بموضوعنا مثلًا، ما يهم روسيا اليوم هو عدم فتح ملف جرائمها في سوريا، وكذلك تسعى الولايات المتحدة لعدم فتح ملف جرائمها في العراق وسوريا، ومن ثمَّ ليس لهذه الدول مصلحة في المحاسبة.

 

– في ظل هذا الصمت على الانتهاكات، هل ستفلت القوى المحلية التي ترتكب هذه الانتهاكات -بحجة قتال تنظيم الدولة- من العقاب؟

الأمل في نجاح المرتكبين بالهروب يحرّكهم، وهو ما يفسر جانبًا من أسباب إصرار ما تبقى من نظام الأسد وحلفائه على تحصيل النصر العسكري الشامل، ولماذا يرفضون التسوية مع المعارضة إلى الآن، ويفضلون التقسيم إن لم يكن لديهم إلا خيار واحد منهما، كحالهم منذ اليوم الأول للثورة السورية، فهم يخشون المحاسبة، ويأملون أن يثبتوا أنفسهم أنهم الطرف الذي قاتل الإرهاب، وأن يتم قبول اتهامهم للمعارضة بأنها إرهابية.

لذلك هناك أهمية فائقة للجهود التي تبذلها أطراف من المجتمع المدني السوري، (محامون في مقدمتهم أنور البني ومازن درويش، ومؤسسات حقوق إنسان) لرفع قضايا أمام القضاء في الدول الأوربية التي لم تتورط بالحرب في العراق وسوريا، والتي ينص قانونها على الاختصاص بقبول القضايا المرفوعة ضد الجرائم ضد الإنسانية التي تجري خارج حدودها.



صدى الشام