لا، ليس بحضور الخادمة!


مناف الحمد

يستورد بعض رموز الإصلاح الإسلاميّ الجدد أفكارًا من سياق مغاير، ويقحمونها مفصولة عن مقدّماتها، وفي غفلة عن حمولاتها الأيديولوجية، ويصفق لهم لا دينيّون سابقون يقولون: إنهم أدركوا خطأ موقفهم السابق المعادي للدين.

سنضرب مثالًا على محاكاة إسلامية إصلاحية مفهومًا غربيًا، ونبيّن بؤس المحاولة؛ بسبب الغفلة عن الظروف التي اكتنفت المحاولة الأصلية.

نظن أن اللادينيين السابقين يريدون تمييع المعتقد؛ ولهذا يرحبون بمحاولات من يسمّون أنفسهم إصلاحيين إسلاميين، ممن وجدوا التطفل على المنظومة الإسلامية طريقًا للظهور والصدارة لا يكلّفهم أكثر من عدّة معرفية ضحلة؛ يخدعون بها أنصاف المثقفين في مجتمعات محبة للدين، ولمن يتظاهر بتمثيله، والدفاع عنه.

قبل أن نشرع في عرض المثال نقول لطرفي التحالف الإصلاحيّ اللادينيّ (في حلته الجديدة) ما كان يقوله فولتير لجلسائه: “لا، ليس بحضور الخادمة!”.

فقد كان يطلب منهم قطع الحوار في مسائل تمسّ صميم المعتقدات الدينية، كلما دخلت الخادمة. ويعني -مدفوعًا بحسّ أخلاقي رفيع- ضرورة تجنيب العوام سماع نقاشات تشوّش معتقداتهم، وتقلق اطمئنانهم.

فليكفّ طرفا الحلف المشبوه عن تصديع إيمان الناس، طرف بذرائعيته، والآخر بجهله وانتهازيته، وليتمثّلوا مقولة فولتير، وليصفق كلّ منهم للآخر في الصالونات المغلقة!

أنموذج التعددية الدينية الذي كان رائده في الغرب الراهب البروتستانتيّ (جون هيك)، وجسّد نسخته الإسلامية المفكر الإيرانيّ (عبد الكريم سروش)، اجتاز في المكان الذي تبلور فيه مفهومُه، وسُكّ فيه مصطلحه سيرورة تاريخية يمثّل إغفالها -بغية استنبات المفهوم، وإقحام المصطلح في سياق تاريخيّ، وفضاء معرفيّ آخر- عملًا يثير الربية إذا أسأنا الظن، ويثير الشفقة إذا أحسنّاه.

فـ جون هيك لم يخلق المفهوم من عدم، وإنما استند إلى إرهاصات للمفهوم يمكن العثور عليها لدى بعض منظّري النزعة الأنسنية الكاثوليكية، ومن حذا حذوهم من البروتستانت، واعتمد في بلورته على نظرية المعرفة الكانطية.

الأنسنيون الكاثوليكيون، ومن تأثر بهم في مسعاهم لجعل البعد الإنسانيّ ذا الباع الأكبر في تحديد الدين، تخفّفوا من عبء المقولات العقدية، وقصروا الدين على بضع مقولات بسيطة تصلح أن تكون قواسم مشتركة بين الأديان، وهو تمهيد للتعددية الدينية؛ لأنه يرسّخ أهمّ مكوّن من مكوناتها وهو مفهوم التسامح.

أما نظرية المعرفة الكانطية التي تمثّل الإطار الفلسفيّ الذي حاول جون هيك محاكاته في رسم معالم تصوره التعدديّ، فقد ميّزت بين الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، عادّة الشيء في ذاته مما يعجز العقل البشري عن الوصول إليه، وهو ما أسقطه هيك على معرفة الكائن المتسامي الذي لا يمكن معرفة ماهيته، ويمكن معرفة تجليّاته التي تُؤوّل بدالّة تجربة المتلقي الفردية.

ولعل إلقاء ضوء على نظرية كانط في المعرفة، وعلى ادعائه خواء اللغة الدينية من المعنى، يساعد في تكوين فهم أعمق لنظرية هيك التعددية

يقسم كانط الأحكام الى ثلاث طوائف:

–أحكام تركيبية أولية: وهي سابقة على التجربة، وهي الأحكام التي تختصّ بها الرياضيات، وقطبا المبادئ الرياضية هما الزمان والمكان، وهما قالبان موجودان في الحسّ بالفطرة، وبصورة سابقة على التجربة، وهما يقولبان المدركات الحسية في قالبيهما، ويضفيان عليها الصورة.

-أحكام تركيبية ثانوية: وموضوعها هو ظواهر الطبيعة التي لا يمكن إدراك سواها؛ لأنها هي التي تدخل في نطاق التجربة.

وهذه الأحكام الثانوية ذات بعدين:

بعد تجريبي: هو الإدراكات الحسية المستوردة من الخارج بعد قولبتها في قالبي الزمان والمكان، مثل ما أشرنا آنفًا.

وبعد عقلي: وهو ما سيضفيه العقل بواسطة مقولاته الفطرية على هذه المدركات الحسية محولًّا إياها إلى معرفة.

ومن هنا جاء تصنيف كانط الشيء إلى: الشيء الظاهر، والشيء في ذاته، فالمادة قبل أن يكيّفها العقل وفق قوالبه غير ممكنة المعرفة، كما لاحظنا، وما يمكن معرفته هو الشيء مثلما هو ظاهر لنا، أما الشيء في ذاته، فمعرفته متعذّرة.

–أحكام ليست أولية، ولا ثانوية: وهي أحكام الميتافيزيقا، وهي ليست أولية؛ لأنها لا تعالج موضوعات قائمة في الذهن، وهي ليست ثانوية؛ لأنها لا تعالج موضوعات تجريبية كالأحكام الثانوية.

من تصنيف كانط هذا يتضح أن القضايا الميتافيزيقية قضايا لا يمكن للعقل النظري أن يعالجها، وأن يصل فيها إلى شيء، والمهم في دراستنا لأنموذج جون هيك المعرفي هو استناده إلى تصنيف كانط للشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، وإسقاطه هذا التصنيف على العلاقة مع المتعالي، أو الحق على حد تعبير هيك.

فثمة فرق -في نظر هيك- بين الله في ذاته، وهو ما لا يمكن معرفته، وبين الله كما يتجلّى لنا، وهو إذ يتجلّى لنا يخضع لقوالبنا ومسبقاتنا التي تضفي عليه صورًا متنوعة، وتجعله دالّة للمفاهيم البشرية المختلفة، وهو ما يؤدي بالضرورة إلى جعل التعددية الدينية واقعًا لا محيص عنه؛ وتبعًا لذلك يصبح لكلّ تجربة دينية قسطها من الحق والصواب، ويصبح الزعم باحتكار الحقيقة زعمًا مخالفًا لواقع التعدديّة الراسخ الذي لا بد من الاعتراف بمنطقيّته.

ولا شكّ أن كانط قد تأثر في تمييزه بين الشيء في ذاته، والشيء كما يبدو لنا، بأفكار لاهوتيين بروتستانت، ميزوا التمييز ذاته بين الله في ذاته، والله كما يبدو لنا.

فضلًا عن أن كانط يعد الأنموذج الأمثل لتأثر الفلسفة الألمانية باليهودية، أو بتعبير آخر لتهوّد الفلسفة الألمانية؛ فهو ممن تأثروا بفلاسفة يهود أشهرهم سبينوزا، وقد اقتبس أفكارًا جوهرية من التوراة، وعقلانيته المجردة مستمدة من الفلسفة اليونانية التي تأثرت بها الفلسفة الألمانية بواسطة الفلسفة اليهودية، وهو بروتستانتيّ الانتماء، والبروتستانتية هي النسخة المسيحية الأقرب إلى اليهودية. وهذه المظاهر هي أبرز مظاهر تهوّد الفلسفة الألمانية. (انظر طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي).

أما عمارة (سروش) التعددية، فهي تقوم على عدة مبانٍ من أهمها:

أولًا: أن المتن الديني صامت يحتاج إلى من يستنطقه بتفاسير متنوعة؛ الأمر الذي يعني تكثر الفهم الدينيّ، وتنوعه، وهذا التنوع لا يقبل الاختزال إلى فهم واحد “والسر في ذلك أن النص صامت، ونحن نسعى باستمرار لفهم النصوص الدينية، وتفسيرها سواء في الفقه، أو الحديث، أو القرآن، من خلال الاستعانة بمسبقاتنا الفكرية، وتوقعاتنا من النص، والأسئلة التي تدور في أذهاننا في مرحلة سابقة، وبما أنه لا يوجد تفسير من دون الاعتماد على التوقعات والأسئلة، والفروضات المسبقة، وبما أن هذه التوقعات والفروضات مستوحاة من خارج الدين، وبما أن الفضاء المعرفيّ خارج الدين متغيّر وسيّال، كما أن العلوم البشرية والفلسفة ومعطيات الحضارة الإنسانية تزداد وتتراكم وتتغير باستمرار؛ فلهذا كله كانت التفاسير المترتبة على هذه الأسئلة والتوقعات والفروضات المسبقة متنوعة ومتغيرة”. (عبد الكريم سروش، الصراطات المستقيمة).

ثانيًا: أن التجارب الدينية تتنوع تفاسيرها، ومفهوم التجربة الدينية لدى سروش شديد الشبه به لدى هيك، فالتجربة الدينية هي مواجهة المتعالي، وهي لا تكون تجربة إلا إذا كانت مفسّرة، وبما أن التفاسير لا تختزل في تفسير واحد؛ كان التنوع واقعًا.

ويستشهد سروش، وهو بصدد الحديث عن تنوع تفاسير التجربة الدينية، بشيخ الطريقة المولوية جلال الدين الرومي الذي يتحدث عن التنوع بصراحة وشجاعة:

“من خلال المنظر، يا عقل الموجود.. يختلف المؤمن والمجوسي واليهود”

ويفسر سروش ما يقوله المولوي بأن الخلاف بين الأديان الثلاثة ليس اختلافًا بين حق وباطل، وإنما هو خلاف في زاوية النظر. (المرجع نفسه). ومن الواضح أن سروش يحاول محاكاة جون هيك في محاولته ترسيخ فكرة امتلاك كلّ الأديان قدرًا من الحقيقة، وأنها لا تتفاضل في ما بينها.

وهي محاكاة لا مشروعية لها؛ لأنها تفتقر إلى ما امتلكته الأصلية من مقدّمات، وما توّجته من محاولات، وما استندت إليه من إطار معرفي متين، بغضّ النظر عن نقاط ضعف هذا الإطار، والمرجعيات التي تأثر بها. فتنوع التجارب الدينية لا ينفي أن ثمة تجربة حقيقية، وأخرى زائفة، وتنوع التفاسير لا يلزم منه تساويها في الصحة.

لا تتساوى الأديان في القيمة، والدعوة إلى سلبها مضامين تفقرها، وتحيلها إلى مجموعة مبادئ أخلاقية، دعوةٌ لا تصلح في كلّ سياق، وإن كان البحث عن مشتركات تتيح الحوار الحضاريّ، والتعايش بين أتباع الأديان المختلفة أمرًا ضروريًا، وملحًا، ولكنه ينبغي أن يكون من دون إقحام غير مدروس لمفاهيم نضجت في فضاء معين في آخر مغاير له، وبإدراك للحمولات الأيديولوجية التي تثقل كاهل المفهوم عند محاولة مقاربته واستثماره.




المصدر