ما الذي يطرحه “جيش الإسلام”؟ أو بعد ماذا؟


ماجد كيالي

قبل أيام، أعلن ممثلٌ عن “جيش الإسلام” الذي يهيمن على مناطق الغوطة الشرقية لدمشق، ويتواجد في مناطق أخرى، موافقة “جيش الإسلام” على حل نفسه والاندماج في ما أسماه بـ “جيش سوري وطني موحد”. وقبل عدة أشهر دعا محمد علوش، أحد قادة هذا الجيش وممثله في “الهيئة العليا للمفاوضات” إلى تغيير الاستراتيجية العسكرية المتبعة من قبل جماعات المعارضة العسكرية، واعتماد “حرب العصابات والكمائن وقطع الطرقات واستهداف نقاط قوات الجيش بعيدًا عن الاحتفاظ بالمدن”. (العربية الحدث، 31 آب/ أغسطس 2016).

في نقاش هذا الأمر، لنأخذ أولًا مسألة التسميات، ففي البداية كنا إزاء “سرية الإسلام” (أواخر 2012)، ثم “لواء الإسلام”، ثم “جيش الإسلام”، (أواخر 2013)، بعد اندماج نحو 50 تشكيلًا عسكريًا في اللواء، علمًا أن كل التشكيلات المذكورة، من السرية إلى اللواء إلى الجيش، كانت بقيادة زهران علوش (اغتيل جراء غارة روسية، أواخر 2015). وفي هذا الأمر يمكن أن نلحظ مسألتين: الأولى هي المبالغة بالأحجام، وفي تقدير الإمكانات الذاتية، إلى درجةٍ بات يعتقد فيها أصحاب هذه التشكيلات أنهم باتوا بمثابة جيش حقًا، دون مراعاة الفارق الكبير بينهم وبين جيش النظام من حيث العدد والعدة، ودون مراعاة الدعم الخارجي له. والمسألة الثانية هي محاولة التغطّي بالإسلام؛ ما أسهم في إزاحة ثورة السوريين عن مقاصدها، بوصفها ثورة من أجل الحرية والكرامة والمواطنة والديمقراطية، كما أدت إلى التشويش على صورتها، كثورة ضد الاستبداد السياسي لتكون سورية لكل السوريين، بتصويرها ثورةً طائفية ودينية. فضلًا عن هذا وذاك فإن هذه التسميات حملت الإسلام أكثر مما يحتمل، بسبب ممارسات الجماعات التي تغطت بالدين، فضلًا عن أن “جيش الإسلام”، وأخواته في مناطق أخرى، لم ينجحوا في تقديم نموذج عن السلطة أو إدارة الحكم التي ينشدها كل السوريين، أو أغلبيتهم، مع نشر النسخة المتشددة والمتعصبة عن “الإسلام”، كما يراه هؤلاء، والذي يختلف عن الإسلام المعتدل والمرن السائد في بلاد الشام. وربما ينبغي أن ننوّه هنا إلى أن هذه التسميات ليست بريئة، أي أنها أتت أيضًا بتشجيعات من الداعمين الخارجيين الذين رأوا في هذا المنحى نوعًا من إضفاء سيطرة وتحكم على التداعيات التي يمكن أن تولّدها الثورة السورية. هكذا شهدنا نشوء “جيش الإسلام”، وفيلق الرحمن، وجيش السنة والجماعة، وأحرار الشام، وصقور الشام، وألوية أحفاد الرسول، وجيش المجاهدين، وذلك على سبيل المثال، مثلها في ذلك كالميليشيات التي تتبع الإسلام السياسي “الشيعي” التابع لإيران، مثل “حزب الله”، و”عصائب الحق” و”فاطميون” و”زينبيون” و”النجباء” و”أبو الفضل العباس”؛ الأمر الذي خدم وأسهم في الترويج لرواية النظام باعتبار الأمر يدور حول حرب طائفية ومذهبية، وضمن ذلك كجزء من الحرب ضد الإرهاب.

ثانيًا، أتت الدعوة إلى التوحد (ولا أظنها جادة) في إطار “جيش وطني موحد”، على أهميتها وضرورتها، متأخرةً جدًا، بخاصة بعد الانهيار على مختلف الجبهات، ولا سيّما في حلب (أواخر العام الماضي)، مع التقدير بأن الدافع وراء هذه الدعوة ليس تولد قناعة ذاتية، وإنما تعذّر قدرة “جيش الإسلام” على فرض سيطرته على كل مناطق الغوطة، ودخوله في صراعات دامية من جرّاء محاولاته في هذا الصدد، فضلًا عن محاولته التكيف مع الظروف الدولية والإقليمية الراهنة، وللأسف فإن سوء التقدير، من قبل المتحكمين بالجماعات العسكرية ومبالغاتهم في تقدير ذاتهم وضعف إدراكهم لتفاعلات القوى الدولية والإقليمية في سورية؛ أضر بالسوريين عمومًا وبالثورة السورية، وبهم أيضًا.

ثالثًا، أما بخصوص الدعوة إلى تغيير الاستراتيجية العسكرية، وتبني حرب العصابات (وهي دعوة غير جادة أيضًا)، فإنها تدفع إلى طرح تساؤلين أساسيين: مَن الذي قال إنه كان ثمة استراتيجية عسكرية للمعارضة السورية أصلًا؟ أو مَن الذي قرر اعتماد هذا الشكل من الاستراتيجية العسكرية، أي السيطرة على مناطق والتمركز فيها؟ علمًا أنني لا أعتقد أن ثمة أحدًا ما يستطيع الإجابة عن هذين السؤالين بصراحة ونزاهة ومسؤولية. والحقيقة المؤسفة أن العمل العسكري لجماعات المعارضة اتسم بالتجريبية والعفوية وضعف المسؤولية، أو ضعف التبصر بالعواقب التي يمكن أن تنجم عن ذلك سواء بالنسبة للسوريين الذين تشردوا، أو بقوا في مناطق محاصرة، بالملايين. والحاصل فإن طبيعية العمل العسكري الذي احتسب على الثورة السورية كان من طبيعة البنى الذي اضطلعت به، وتأثر بعقليتها، وبطريقة إدارتها لأحوالها، ولا سيّما بمرجعياتها السياسية، وبارتهاناتها للدول الراعية. وفي كل الأحوال فإن الجماعات العسكرية للمعارضة، وضمنها “جيش الإسلام” مثلًا، لم تتصرف باعتبار أن السيطرة، على مناطق ما، تحولها إلى مجرد مناطق محاصرة، بحيث لا يعود للجماعات العسكرية ولا للبيئات الشعبية في هذه المناطق قدرة على زعزعة النظام، ولا على توجيه ضربات قوية إليه، أو إلى مفاصله، باستثناء بعض القذائف الطائشة التي كانت تضر بالسوريين، في دمشق أو في غيرها من المناطق، أكثر مما تضر بالنظام. فوق ذلك فإن هذه السيطرة خدمت النظام الذي بات يدير قواته بطريقة “اقتصادية”، فمثلًا بدل أن يسيطر على منطقة شعبية بنشر ألوف العسكريين والأمنيين فيها، بات يكتفي بمحاصرتها ببضع مئات عن بعد، بل إنه حولها إلى “حقل رماية” لبراميله المتفجرة وصواريخه الفراغية والارتجاجية. هكذا أضحت هذه المناطق محاصرة، وبمثابة حقل رماية، وفوق هذين فقد أضحت مناطق لا يمكن فيها العيش، بخاصة مع سوء أو تخلف إدارتها؛ الأمر الذي ولد مشكلة اللاجئين السوريين، ما أفقد الثورة طابعها الشعبي، وخلق كارثة كبيرة للسوريين ولثورتهم.

القصد أن الثورة السورية بحاجة إلى مراجعة مسؤولة ونزيهة، وبحاجة إلى التفكير بطريقة نقدية وجريئة، بدل إلقاء الكلام على عواهنه، كأن الأمر ثرثرة وحسب، بما في ذلك سؤال جماعات المعارضة العسكرية عن نمط إدارتها للمناطق التي سيطرت عليها، ونمط ممارساتها فيها، وقصة “الهيئات الشرعية” و”المفتين”، وضمن ذلك سؤالها عن الطرق التي انتهجتها وأضرت بالسوريين وبثورتهم؛ ويأتي ضمن ذلك الكشف عن مصير المخطوفين الأربعة في دوما (رزان وسميرة وناظم ووائل).

وبديهي أن المسؤولية الأخلاقية والسياسية تقتضي حث المساءلة والمحاسبة، لكن هذا يقتضي، قبل ذلك، توجيه أقصى الجهود إلى إنشاء كيانٍ سياسي وطني جامع للسوريين، يعيد الاعتبار للمقاصد الأساسية للثورة السورية، بوصفها ثورة من أجل الحرية والمواطنة والديمقراطية، وضد الاستبداد بكل أشكاله، كيان سياسي يدرس التجربة كما حصلت، ويأخذ منها العبر والدروس المناسبة لشق طريق جديد أفضل وأقوم للسوريين.




المصدر