أنا سمكة تجرّب الحياة في الهواء


بشرى البشوات

لا بدّ من منفى

لتكبر

ثم تكبر ملء وحشتنا البلاد

لا بدّ أن نقسو

كأن نهدي رصاصة رحمة -مثلًا-

إذا هرم الجواد

لا بدّ من نيرون

كي نصحو

إذًا

لا بدّ من نارٍ لينتصر الرماد.

النص من مجموعة (غامض مثل الحياة.. واضح كالموت) للشاعر حسن إبراهيم الحسن، الشاعر السوري المولود في ريف دمشق، وأتم دراسته في حلب، ويقيم حاليًا في ألمانيا التي وصل إليها، بعد أن عبر بحر إيجة.

صدر للحسن أربعة دواوين شعرية آخرها (كالصدأ العنيد على الصواري)، وهو الذي يعدّه حسن الجزء الثالث من تغريبة النازحين السوريين.

نتحدث هنا أنا وحسن عن بداياته:

*نبدأ من المشهد الأول، البهاء الذي لا يُمحى، البيت، القرية.. هذه الأمكنة ما الذي تبقى من ريف دمشق وحلب، ما الذي تحمله الذاكرة الآن، كيف يتفقد حسن إبراهيم الحسن هذه الأمكنة؟

** يؤسفني أننا حتى حين نحاول الهروب إلى صورنا وذكرياتنا، ما قبل الثورة والحرب؛ فإننا لا ننظر إلى النصف الذي كان ممتلئًا، بل على العكس، فنقول مثلًا: هذا المكان لم يعد موجودًا، هذا الشخص الذي في الصورة مات في المجزرة، وهذه الطفلة فقدت ذراعًا أو… لذا؛ فإن الدمار الذي ترصده وكالات الأنباء وتحاول تقييمه بمليارات الدولارات، هو أبعد وأعمق من دمار المكان بالنسبة للسوري.

*لا يلتقط حسن الفرق في فضائيين بين المشرق والمغرب، لا يفاضل بين المتنبي، وأبو فرج الأصفهاني والكواكبي في حلب، وبين غوته وشيلر وغونتر غراس في ألمانيا، هو يرى الفرق بين كونه في حلب، ووجوده الآن في ألمانيا على نحو مختلف، فيقول في ذلك:

** حقيقة، أنا لا أنظر إلى ذلك من هذه الزاوية، على أنه فارق بين شرق وغرب، بالنسبة إلي، كنت -وما زلت- أنظر إلى الفارق على أنه ما بين سورية وكل ما هو خارج حدود سورية، حتى وإن كان عربيًّا. مشكلتي الجوهرية أني لم أفكر يومًا في الحياة خارج مدينتي حلب، على الرغم من حصولي على عقود عمل مغرية.

أما بالنسبة للحياة هنا، فهي ليست معقدة، وليست أوروبا كما يشاع عنها، إنها كذبة كبيرة، ولا أنفي بعض الامتيازات كالحرية ومعونة البطالة مثلًا، لكني كنت منتجًا في بلدي، وحياتي كانت موزعة بين العمل والكتابة، وأكثر تنظيمًا وأقل هدرًا للوقت، طبعًا بعد استثناء السياسة والفساد.

ما يمكن أن أقوله باختصار: أنا هنا سمكة تجرب الحياة في الهواء.

* أعيد على حسن مقولة سعدي يوسف عن الحنين أنه “منذ أن عَدّ الحنينَ عدّوًا؛ استقام ظهره”. ولكن الحنين عند حسن!

** لا أنكر أني سوداوي بطبيعتي، على الرغم من إيماني بالله، لكن ما يجري على أرض الواقع يدفعني إلى اليأس والشعور بأني لن أرى سورية مرة أخرى، وهذا ما يتعارض مع ما ذكرت؛ الحنين والفقد يقصم الظهر.

* يفاخر عادة الشعراء بأن لهم عوالم سريّة، صناديق مثل تلك التي تخبئ فيها الجدات الحكايات، لكن لا صناديق في جيوب حسن إنما:

** “الأفكار موجودة على قارعة الطريق”، كما يقال، وأنا غالبًا ما أنهل قصيدتي من الشارع الذي أنتمي إليه، كأي إنسان بسيط يمارس حياته بعيدًا عن الأبراج العاجية.

لذا، بعيدًا عن فلسفة الأمور، أنا أمقت صورة الشاعر النمطية التي يكرسها الإعلام والأدب والدراما على أنها شخصية استثنائية ولها عالمها الخاص.

*أقول لحسن الشعر لغة متعالية، يكتب الشعراء غالبًا لما يسمى بالنخبة، يرى هو عكس ذلك تمامًا:

** بصراحة لا تُستعمل هذه المقولة إلا من قبل الشعوب العربية، والشعوب التي لا تقرأ، لذا أنا أعجب ممن يقرأ القرآن أو الإنجيل، ثم يتحدث عن تعالي اللغة الشعرية، ولا أقارن هنا بالطبع، إنما أذكر ذلك لما تحمله النصوص المقدسة من بلاغة ومجاز، و… القراءة هي أهم ما يمكن أن أشير إليه على أنه نقطة اختلاف جوهرية بين المجتمعات التي قدمنا منها، والمجتمعات الغربية التي تقدّس الكتاب.

*علّم الشعر الحسنَ الكثيرَ من الأشياء؛ فهل الشعر مدرسة، والشاعر تلميذ في صف دراسي؟ ما هي الواجبات المفروضة في هذه المدرسة، لو كانت كذلك؟

** كل إنسان شاعر، وكل إنسان يمر بلحظات إشراق، لكنه لا يستطيع أن يترجم لحظة الإشراق إلى لغة، لأنه يعيش اللحظة بفطرتها دون تأمل، بالنسبة إلي، الشعر علمني التأمل والبحث عن الجانب الجمالي حتى في القبح.

*الكثير من الجوائز في سيرة حسن الذاتية: جائزة الطيب صالح سنة 2014، جائزة دبي الثقافية في عامي 2007/2013، جائزة الشارقة للإبداع العربي 2007.

كما تأهل حسن للمرحلة النهائية من برنامج أمير الشعراء عام 2008.

ما الذي تعنيه كل هذه الجوائز، وما هي أرصدتها الإضافية في حياتك؟

** ما هو متفق عليه أن الجوائز لا تصنع شاعرًا، وإن كانت تساهم في صناعة (النجم) إن صح التعبير، لكن ليس بالضرورة أن يكون شاعرًا حقيقيًا.

في النهاية، بعيدًا عن المثالية في نقاش هذه النقطة؛ الجائزة يمكن أن تكون حافزًا إيجابيًا وربما سلبيًا، حين تنتج أدبًا نمطيًا لإرضاء ذائقة لجان التحكيم والجمهور.

لكن تكمن أهميتها، في غياب حركة النقد، في أنها تشكل نافذة إعلامية لتسويق الشاعر وتقديمه إلى القارئ. أما بالنسبة للمهرجانات فهي فرص للاحتكاك ببعض التجارب الحقيقية عن كثب.

*لم يتعامل الحسن مع حضور المرأة في حياته، بالشكل المتعارف عليه عند الشعراء، إنما رصد حضورها بطريقته وقارب تأثيرها في نصوصه على الشكل التالي:

** أعتقد أني أقل الشعراء تعاملًا مع مفردة (المرأة)، وهذه المفردة لم تبلغ ذروتها عندي إلا عندما كانت تتناول الأم، والابنة لاحقًا. أما المرأة -بعامة- فأنا أحاول أن أترجم لها دائمًا، ما قاله أحمد يوسف داوود: (نصفُ بابٍ لا يسدُّ الريح.. أنتِ!)

*تغريبة الحسن، البعد عن سورية، عن الظلم، عن البحر والموت الذي يلاحق السوريون؛ أينما ولوا وجوههم. سورية التي غادرها حسن مرغمًا، أين هي على خارطة وجدانه؟

** تغريبتي ليست سوى سطر على هامش تغريبة الشعب السوري العظيم؛ لذا لن أتكلم عن التفاصيل، لكني باختصار أقول إن عبور جبال تركيا، والتشرد، قوارب الموت، الضياع في غابات أوروبا، عبور أوروبا الشرقية سيرًا على الأقدام، المستنقعات التي ابتلعت أحذيتنا؛ فسرنا عشرات الكيلومترات حفاة، قطّاع الطرق واللصوص، الفرار من البوليس وخفر الحدود… كل ذلك لا يعادل يومًا واحدًا أو ربما ساعة من حياة السوري تحت القصف.

من شعره:

صور تذكارية مع بندقية:

I

مشروع قاتل أنا؛

سبَّابتي التي تُرَقِّصُ القلمْ..

قد تضغطُ الزنادَ –

قالَ ضابطُ التحقيقِ لي

II

عيناكَ..

قاسيتان -قالَ- كقاتلٍ،

كفَّاكَ قاسيتان،

من حفرِ المقابرِ -قلتُ،

تلهثُ مثلَ ذئبٍ -قالَ،

قلتُ:

منَ النزوحِ..

سقطتُ..

ليسَ لأنَّ أخمصَ بندقيَّتهِ على كتفي هوى

بل أثقلتني صخرةُ التعبْ.

قابيل جدُّكَ -قالَ،

لم أُجِبْ.

هل تهمةُ الأشجار أخشابُ الصليبِ؟!

هلِ النبيذُ جريمةُ العنبْ؟!

III

مائلٌ كتفي؛

الظهيرةَ..

أحملُ القتلى،

المساءَ..

إلى المخيَّمِ أحملُ الحطبْ.

من قالَ..

إنَّ البندقيَّةَ وحدها السببْ؟

IV

أتذكرُ الجنديَّ؛

شاربَهُ،

العصا،

أزرارَ سترته،

النياشين،

الحذاءَ،

البندقيّةَ،

دمع أمّي،

والشتائمَ..،

تحتَ جزمتهِ مسجّى، كنتُ أمسكُ جمرةَ الدمعةْ.

عيناي شاخصتانِ..

أرمقُ طفلتي،

لكنَّ أخمصَ بندقيَّتهِ هوى

كي يطفئَ الشمعةْ.

V

في هذهِ الغابةْ.

إن لم تكنْ ذئبًا،

لقلبِ ضحيَّةٍ تحتاج – قالَ،

وكشّرَ الجنديُّ أنيابهْ.

الجدير بالذكر أن حسن إبراهيم الحسن، من مواليد ريف دمشق 1976. حاصل على درجة المعهد المتوسط التجاري، يقيم في ألمانيا. صدر له “المبشرون بالحزن، ها أنت وحدي، الصدأ العنيد على الصواري، غامض مثل الحياة وواضح كالموت، خريف الأوسمة”. فاز بجائزة الطيب صالح العالمية/ الخرطوم 2014 وجائزة دبي الثقافية، 2007 و2013، وجائزة الشارقة للإبداع العربي 2007، وتأهل للمراحل النهائية في برنامج أمير الشعراء 2008.




المصدر