الإبداع والحرية توءمان
20 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
جبر الشوفي
الحرية جوهر الإبداع وقينومه ورافعته، هذا ليس شعارًا يرفع ولا حيلة يتحايل بها المبدعون، بل إنه ضرورة المبدع الذي لا يغدو مبدعًا من دونها، فإنْ تجاهلها أو تعالى عليها؛ تجاهلَ موجبات إبداعه ومحرضاته ودوافعه، وكفّ عن التحليق في آفاق الإبداع وسماواته القصية، فالعبد لا يبدع، ومن يقبل الذلّ لا يبدع إلا سلاسل عبوديته، ولا يعاني إلا أوجاع إذلاله!
فقبل أن يتوجه المبدع إلى الآخر، يبدأ رحلة إبداعه في التعبير عن نفسه ولنفسه، ثمّ ينتقل من اكتشافه لموهبته إلى معرفته بذاته وتعريفه لها، لتغدو هوية ناجزة واضحة المعالم مميزة في نتاجه؛ ولذا كان لا بدّ له من أن يحظى بمساحة من الحرية الداخلية، تتيح له مناجاة ومخاطبة أو استنطاق أحاسيسه ومشاعره، ليتمرد على رقابة داخلية، غرسها المجتمع أو السلطات أو كلاهما معًا، وقد عزّزوها بكلّ ما يمكن من عوامل التثبيت والردع، أخطرها وأبعدها تأثيرًا، ما ألبسوه ثوب الفضيلة وأحكم ربطه بالعقيدة والإيمان، أو بالأيديولوجية، وأشهروا فيه سيف التكفير أو التخوين على رقاب المتطاولين والخارجين عليه.
من هنا كان الإبداع المتميز متوهجًا ساطعًا، بمقدار ما ينطوي عليه من روح التمرد والمغامرة والجرأة، في مواجهة رقيبَين متجادلين متفاعلين، يتبادلان الرقابة والكبح الداخلي والخارجي، ليكمل كل منهما الآخر ويغدو امتدادًا له، بل حتى يمكن أن يحلّ محله، منتحلًا أو متلبّسًا بعض صفاته وخصائصه، فتتضايف العادات والتقاليد والمفاهيم الموروثة على العقيدة، وتتضايف الوطنيات المدّعاة وتثقل على أكتاف الحرية ودعاتها، لتغدو جميعها منظومة شديدة الترابط للقهر والاستبداد، وتتحّول في وعي الأجيال وازعًا أو رادعًا داخليًا وخارجيًا، سياسيًا واجتماعيًا، حتى لتغدو جبّة الشيخ وعصاه أهونها!
هكذا تحتشد المجتمعات بما رسخ في وعي أفرادها، وتضغط بأقانيم وعيها وثوابتها الثقيلة على صدر الكاتب؛ فيوضع في مفارقة خطيرة ولكنها جديرة بأن تعاش، لأنها تقدح كشرارة احتكاك، يتولّد من خلالها النار أو النور، فحين ينصرف المنتج إلى قبول المألوف والموروث، ليتهجّد في هياكله مرائيًا مضمرًا شرارة التمرد المبدع، كي ينال الثناء والأمان، عبر تأكيد انتسابه إلى هوية القوم الثقافية الموروثة، أو يندرج في مروّجي السلطة الزائفة، يكون قد حكم على إبداعه بالخفة ووضعه في متراجحات السكون والبلادة والتقليد، أما إذا اندفع بقوة إلى التمرد على هيمنة الوعي السلبي بنفسه وبالآخر وبالمجتمع، فهو لا بدّ مجازف مجازفة الإبداع وذاهب إلى الزجّ بنفسه في محكّ منافسة فكرية وجدانية، تطرح بقوةٍ وتحدٍّ مقبوسَ وعي تحرّر من كوابحه، ليجسد حرية الإبداع والمبدع ويغدو فاتحًا لأقانيم الحرية المستغلقة؛ فيستوي الأدب المنتج كائنًا، ينمو ويتفاعل في أرضه ومجتمعه، ويصوغ رسالة وعي، تنسجم في مؤداها مع المسار الكوني للحرية.
صحيح أنّ غالبية الإنتاج الإبداعي الأدبي عامة -عندنا- تقع في مركز التجاذب بين التصالح مع التقليدي والمألوف والتمرد عليه، مستعيضين عن متاهات الحرية ببعض جماليات شكلية تسويقية، أو قد ينصرفون إلى نقد وتجريح ما هو أقلّ حساسية في هذا الجانب أو ذاك، ويشيحون بأنظارهم عن إشكالات الوعي بالحرية، ويتركونها خلفهم لإعادة تدويرها، كمشكلات وعقبات تعترض مسار الوعي التام، تهربًّا من المسؤولية، وخوفًا من المواجهة، أو لضعف في الموهبة التي تركتهم متسكعين على الضفاف، ينصرفون إلى عدمية، تجعل من العبث سبيلًا لتعبير الفنتازي الفوقي عن الضجر بالمجتمع ومجافاته!
وصحيح –أيضًا- أنّ ثمة حالات متفردة من الإبداع شهدت الآداب والفنون العالمية بعضًا من نماذجها، وذلك لأنها انطوت على حالة وعي خاص ومتضخم بـ (الأنا)، ومتطرف بفهم مسألة الحرية، حتى باتت شخصياتها وإبداعاتها مفردات صارخة في فضاء الإبداع، من خلال تنمية حساسية فارقة، أنضجت عوالمها وعمق توغلها في (الأنا) في مواجهة الآخر، بوصفه الآخر فردًا أو مجتمعًا قامعًا ووحيد الجانب فقط، وقد تجاوزت في ذلك المستوى القيمي التقليدي المتعارف عليه، على الرغم من ذلك النشوز الذي يؤكد خصوصية حالة الإبداع وفرديته من جهة، واجتماعيته وإنسانيته من جهة أخرى؛ إذ إنّ هذه الحالة من الضجر والانكفاء، ليست سوى التعبير السلبي بحساسية أعلى، عن مستوى من العلاقة المنقوصة أو المغدورة مع المجتمع والعالم، بعد أن شوهته حضارة السلعة وأفقدته جوهره الخيّر المشع، في حمى الركض المحموم، خلف وسائل العيش والحاجات المتجددة بسرعةٍ تفوق إمكاناته المادية والمعنوية، للتلاؤم مع زمنه بمرات ومرات. وهي الشروط الطاردة ذاتها التي ضاعفتها العولمة، فطردت الإنسان منها وتركته لاهثًا خلفها، لا هو قادر على تجاهلها والتخلي عنها، ولا هي توفر له إمكانية التحكم، لتخفيض سرعتها وتوطين شروطها وإخضاعها لشرطه الإنساني.
من هنا، من مجمل الشروط الثقافية والتقنية ومن شروط سوق المال “المعولم” التي دفعت بها الليبرالية الحديثة (المتوحشة)، لتغدو شروطًا كونية، كلية القدرة والجبروت، في سحق البنية الاجتماعية الضعيفة وتشتيتها -وهي أكثرية البشرية المطلقة- وإعادة تطويعها وإنتاجها جيلًا بعد جيل، بما يتناسب وهذه الشروط، وليغدو عالم ترامب الضيق بتعداده، الواسع المنفلت بغرائزه، قادرًا على التهام السمك الصغير في المحيط الكوني، من دون أن يردعه رادع أخلاقي أو قانوني، في عالم منتهك، أوشك أن يفقد إمكانية الصدّ، إما لأنه ضعيف مهزوم، أو لأنّ عجلة التحضّر تجاوزته، ولم يعد قادرًا لا في ثقافته ولا علومه ولا بنظرياته الإنسانية الديموقراطية الخيرة، على إيقاف العجلة، حتى ولو لمجرد التقاط الأنفاس، والتطلّع إلى الوراء لإحصاء الضحايا، قبل متابعة الطريق.
هكذا تؤكّد العولمة، يومًا بعد يوم، وتعمّق، يومًا بعد يوم، مأزقَ الحرية، وتجعل منها مسألة إشكالية شديدة الارتباط بالبنية الأخلاقية والشروط المادية للعولمة، فكيف بمن يملك أحاسيس ومشاعر وثقافة تؤهله لأن يبدع، لأن يتجه إلى أبناء الحياة، بوصفهم أبناء الحرية أبناء التجدد والعطاء؟ وكيف يكتب لكل هؤلاء، إذا لم يكن هو نفسه مبدعًا حرًا، وإذا لم يتوجّه إلى متلق حرّ أيضًا؛ فيتلاقيا ويتكاملا في تعدد القراءات والدلالات التي لا تتوقف عند إعادة إنتاج النصوص، وفتح آفاقها على فضاء التأويل، بعيدًا عن هرطقات بعض المؤولين فحسب، بل لأنه يقدح شرارة الحرية على محك التجريب -أيضًا- وينقلها من إطارها النظري المحض، إلى سيرورات التفاعل الخلاق، محدثًا ذلك الصدع المعوّل عليه، بين السكون والبلادة والتنافس والغلبة!
[sociallocker] [/sociallocker]