تداعيات على سرير أزرق


دمر السليمان

حرصًا مني على ألا تصيبني لوثة كالتي أصابت الكثير من المغتربين، ألا وهي إغلاق سراديب الذاكرة، والاستسلام لنوم هانئ، بعد يوم روتيني عادي، اللوثة المتمثلة بكثرة التساؤلات عن البديهيات، كالتساؤل مثلًا عن أسباب الثورة، أو كما يحلو للبعض أن يسميها أحداثًا أو أزمة أو حربًا أهلية… إلخ. فقد لازمتني عادةٌ، وهي أنني، في كل يوم قبل أن أنام، أحاول استذكار كامل التفاصيل التي عشتها بالمعنى الشخصي أو بالمعنى العام في بلدي.

البارحة، بسبب معاناتي من آلام حادة في الحنجرة؛ تذكرت ذلك اليوم الذي كان من المقرر أن يجرى لي فيه عملية استئصال اللوزتين، ولأنني كنت في عمر الثالثة عشر حينها، تقررت العملية بعد محاولات طويلة من علاج كان مؤلمًا جدًا بالنسبة لي في ذلك الوقت.

لقد كان موعد العملية التي عنت، بالنسبة إليّ، انتهاءَ مرحلة من العذاب المرير في اليوم ذاته الذي أُعلن فيه خبرٌ قلبَ البلدَ بأكمله، رأسًا على عقب.

نساء متشحات بالسواد ورجال قد أرخوا ذقونهن وملامح الهلع قد اجتاحت شوارع المدينة، وصوت تلاوة القرآن التي احتكرت البرامج التلفزيونية، لأتذكر صورة الدكتور الذي كان يعاينني في تلك اللحظة، وقد بدأ بفرك عينيه حتى تبدو ملامح الحزن على محياه. ذلك الحدث كان وفاة باسل الأسد (وسمّي لاحقًا استشهادًا)؛ نتيجة لهذا الحدث تم تأجيل أغلب العمليات الجراحية في مشافي البلد، باستثناء عمليات الزائدة الدودية؛ الأمر الذي كان شديد السوء بالنسبة لي نظرًا لاضطراري إلى أخذ إبر البنسلين شديدة الألم من جديد، ولمدة غير محددة هذه المرة.

كان هذا هو الانطباع الأول بالنسبة لي عن الوطن والوطنية، أُجريت العملية لي بعد أسبوعين من المعاناة مع إبر البنسلين، وبعد طول تغيبي عن المدرسة، عدت لأفاجَأ بذلك النص الذي أصبح يفوق في أهميته قصائد الأدب في درس اللغة العربية من حيث ضرورة حفظه، وهو (سيرة حياة باسل الأسد)، وأضيف إلى مجموعة الشعارات الوطنية التي كنا نرددها في المدرسة شعار (كلنا باسل)، ومع امتلاء حياتنا بصور الشهيد الجديد والذي لم نكن حتى نعلم اسم المعركة التي استشهد فيها، لكن على أي حال صوره التي انتشرت كانت تجسد صورة فارس بطل فوق حصان، صورة الشاب المؤمن بلباس الحج، ولتصبح سيرة الشهيد البطل الذي مات في حادث سير (كان يمكن أي يودي بحياة أي شحص عادي) سيرةَ بطولة أسطورية.

كانت جملة هذه التغييرات في حياتنا المدرسية، بالنسبة إلي، هي الترجمة الحرفية لإبر البنسلين، وقد أصبح لزامًا عليّ وعلى كل أفراد جيلي أن نحفظ عن ظهر قلب سيرة الشهيد البطل الفارس المهندس المظلي باسل حافظ الأسد. بعد فترة من الزمن، استدرك أحدهم الخطأ الفادح المتمثل في نسيان إحدى أهم صفات البطل، وهي الرائد الركن فأصبحت السيرة الأسطورية تبدأ بالديباجة المعروفة بالرائد الركن المهندس المظلي الفارس الطيار الشهيد باسل حافظ الأسد. وكان هناك حرص شديد من المعلمين في المدرسة على معاودة تسميع سيرة البطل في كل المناسبات الوطنية، ولم يترددوا أيضًا بإنزال عقوبات شديدة في من تسوّل له نفسه نسيان أو تغيير ترتيب هذه “الأسماء الحسنى”.

بالطبع تساءلت حينئذ عن هذا المخلوق الفضائي، من هو فعلًا؟ ولكن الجواب يختزل، بالنسبة إليّ، اليوم بأنه: ألا يبدو للعيان أن من قام بصياغة هذا الكلام هو شخص معتوه ومريض، وأن من وافق على اعتبار هذا الكلام كتابًا مُنزَلًا، وأن على شعب بأكمله أن يردده كالببغاء هو شخص لا يقل عنه عتها ومرضًا.

ولتزداد الأمور سوءًا، كان المدرسون ومسؤولو المؤسسة التعليمية معظمُهم -إن لم أقل كلهم- مسخرةً لهذا الهدف، فمَن من أبناء جيلي لا يذكر ذلك الشخص المتمثل أحيانًا بمدرّس مادة القومية أو مدرّس المادة العسكرية أو حتى مدير المدرسة أيضًا، وقد أصبح الحرص على حفظ الطلاب جميعًا لهذه النبذة التاريخية إحدَى مهماته، وأصبحت ذكرى مغادرته للعالم الأرضي مناسبة لاستذكار هذه السيرة الغرائبية على الملأ صباحًا، قبل تحية العلم.

لا أستطيع أن أنسى وجه معلّم مادة القومية، وهو يستحلفني بجميع المقدسات، وقد اغرورقت عيناه بالدموع أن أردد سيرة البطل، علمًا أني لم أكن قادرًا حتى على الكلام بشكل جيد، بعد العملية التي كنت ما أزال أعاني من آثارها، نظرًا إلى انخفاض مناعة جسمي في ذلك الوقت. كان مصرًّا على أن يتأكد من أني حفظت سيرة البطل المغوار عن ظهر قلب.

الآن، بعد عشرين عامًا، أعود وأسأل نفسي: كيف استطاع أحدهم أن يسخر من عقل جيل بأكمله؛ أو بالأصح، كيف استطاعوا أن يسخروا من عقل بلدٍ بأكمله! أعلم الآن حجم الكارثة التي أودت بنا إلى هذا الحضيض الذي نحن فيه، وأعلم -أيضًا- أن الحلّ ليس بقريب، وقد يكون أصعب بكثير مما يمكن أن نتخيل. لكني سأحرص -دائمًا- على أن أحافظ على عادتي في استذكار التفاصيل، الصغيرة منها والكبيرة، حتى لا تصيبني لوثة الكثير من المغتربين في السؤال عن البديهيات.

أعدكم بذكريات أجمل. تصبحون على خير..




المصدر