“دروس المُقدسات” من الشام الى القدس


نزار السهلي

من أين يستمد المحتل “شجاعته وجرأته”؟ سؤال طرحناه في غمرة الثورة السورية، وهي تواجه فاشية غير مسبوقة على كافة الصعد: التدمير والتهجير والقتل والإعدام والحصار، إلى كل المفاهيم والمصطلحات التي طفحت بها الأدبيات السياسية والعسكرية لحركات التحرر الوطني الفلسطيني، وفي غمرة النضال الوطني الفلسطيني، قيل إن الهوان العربي سمح للمحتل الصهيوني بأن يتمدد في غيّه. تغوّلُ المحتل في القدس والأقصى ومنع الصلاة في المسجد الأقصى للمرة الأولى منذ 48 عامًا، لا يمثلُ اختبار المساس في عقيدة وشعائر المسلمين أو المسيحيين اليوم، من قبل الاحتلال الإسرائيلي، وهو المراقب لعمليات جرف دور العبادة وقصفها وتدميرها فوق السوريين.

“نجح” الصهيوني بتسويق “أخلاقياته”، مُراقِبًا تفوق فاشية الأسد التي تجيز للمحتل التغول أكثر، ولم تعد عبارات عنصرية يخطها مستوطنون على جدران المساجد أو المنازل، ولم تعد عربدة المستوطنين أمام جيش التعفيش، تملك وقع الإدانة والاستنكار، ومساجد السوريين ومآذنهم تهوي بقصف السوخوي والبراميل. وإذا كانت عصابات الأسد اغتصبت تحت قبة المساجد سوريات، ووضعت على أفواههن مكبرات الآذان ليسمع بقية سكان الحي أصواتهن؛ فإن قادم الأيام كان “يُبشّر” المحتل بنجاعة سياسته واختبار “المحظور” الذي جعله الأسد مألوفًا للإسرائيلي، ليس بالمعنى النظري، بل بمعناه المادي الفظيع.

يبدو درس منع الصلاة في القدس نموذجيًا في فضحه لعجز قديم، ويكشف تشريح الدرس عن مفاصل سياسية تتناتج من دون إبداع، ويمكن لقارىء الدرس أن يستنتج ما لا يقيم وزنًا لحقائق قاسية وصادمة، والاكتفاء برجم المحتل بعبارات الإدانة والاستنكار، دون الالتفات إلى ضحايا جريمة الطغيان في مقدساتهم. قدسية وكرامات البشر لا تختلف عن الأمكنة، في كل جسد ومكان تحوّل لكينونة إنسانية، وفي كل منزل أو عائلة أو حي تكمن قدسية إنسانية روحية ومادية وتاريخية.

هل يفاجئنا المحتل، إذا قرر استعارة فعل الجلاد في دمشق، وطوره لقتل الأسرى تحت التعذيب، أو بدأ عملية هدم واسعة لأحياء سكنية في القدس أو الناصرة أو أمّ الفحم، أو قام بعملية نقل جماعي لسكان البلدات والقرى العربية داخل الخط الأخضر، واستعاد نشاطه في التغيير الديمغرافي؟ بالطبع لا. بعد أن أسقط الجلاد دهشتنا في حمص بقصف قبر خالد بن الوليد، وتدمير المسجد الأموي في حلب، وتدمير حواضر وتاريخ السوريين على المنوال الفاشي وسلوك النازية، تسقط الدهشة اليوم من عملية إغلاق المسجد الأقصى ومنع الصلاة وحتى من اقتحامه، كيف لا وقد أضحى التلاميذ النجباء في مدرسة الأسدية متفوقين على مفاهيم ومصطلحات، التصقت بممارسات وسلوك الصهاينة، حتى جاء من يحررهم منها.

فكك النظام السوري، بتلميح سريع قوامه سبعة أعوام، الفوارقَ الكبرى بين اللغة والأفعال، وأفضت أفعاله إلى نتائج كبرى كان يجتهد المحتل لشطبها من قاموس جرائمه، ليصبح جدل العلاقة بين طاغية الشام والمحتل مطلوبًا بقاؤه، ويغدو العزل بينهما مستحيل، إلا في الحدود الزائفة التي يرسمها طرفا المعادلة. ابتهاج المحتل بسلوك الطاغية لم يكن خافيًا، خصوصًا عندما يراقب المبتهج تنفيذ دروس كانت مدماك وجوده قبل سبعة عقود، وخلال سبعة أعوام يُنجز الطاغية اختصار الزمن بهدم مدماك الإنسان السوري وتاريخه، والدوس على مقدساته كافة، فلا محرمات ولا قوانين ولا أعراف تضبط وحشيته.

من يمنح المحتل دروس استنباط فاشية جديدة هو من يمارسها باستدراج كل الشعب السوري إلى حواف الكوارث، ويثخن أجساد بنيه بالجراح والدمار الشامل. نجم عن تثبيت قاعدة الطاغية في دمشق توطيد ممارسات وسلوكيات للمحتل، بدأت تظهر تباعًا انعكاساتها من منظور الأخلاق والسياسة، وصولًا إلى اختبار ردّات الفعل على الجرائم المختلفة، من حصار السكان وترويعهم، وتدمير القرى والمدن وقصفها بالأسلحة المحرمة، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية، كل ذلك يجعل المحتل مزهوًا بصورة شبابه في بدايات الإجرام، ويمنح مفهومًا مغايرًا لمعنى المقدّس. من حلب إلى درعا، ومن الرقة ودير الزور إلى القصير، وصولًا إلى القدس، يُنتهك الإنسان من ساكن القصر بالشام، ومن مسكون بأساطير تلموديه عند حائط البراق، في مشهد تبادل نخب الأدوار والوظيفة المقدسة.




المصدر