في فهم ما يجري، أين الخلل؟


بدر الدين عرودكي

فجأة، يخرج إمانويل ماكرون، رئيس الجمهورية الفرنسية الجديد، ليكرر بصيغة رسمية متماسكة ما سبق أن قاله، قبل ثلاثة أسابيع من ذلك، في حديث صحفي بصيغة لا تخلو من بعض الرعونة الدبلوماسية، حول “عدو الشعب السوري” الذي يمكن له البقاء في وظيفته، بما أنه ليس “عدو فرنسا”. فقد قال بالحرف الواحد، في مؤتمر صحفي عقده مع الرئيس الأميركي يوم 13 تموز/ يوليو الحالي: “لن نجعل من رحيل بشار الأسد شرطًا مسبقًا لمشاركة فرنسا”، في المباحثات حول سورية. “لقد غيّرنا في الحقيقة الرؤية الفرنسية إزاء سورية من أجل تحقيق بعض النتائج والعمل بصورة وثيقة مع شركائنا، وخصوصًا الولايات المتحدة الأميركية”. إذ بخلاف منافسيه من اليمينيْن التقليدي والمتطرف، أو من اليسار المتطرف، الذين أعلنوا صراحة عن ضرورة التعاون مع بوتين في الشأن السوري، لم يكن في كل تصريحات ماكرون مرشحًا لرئاسة الجمهورية ما ينبئ بهذا الانعطاف الجذري في موقف فرنسا من المسألة السورية. فهل كان هذا التغيير مفاجئًا بالفعل؟ نعلم جميعًا أن الأولويات الفرنسية، في ما يخص الشأن السوري، قد تغيرت منذ كبرى العمليات الإرهابية بباريس، في كانون الثاني ثم في تشرين الثاني عام 2015، حين أعلنت الرئاسة الفرنسية يومها عن تغيير في ترتيب الأولويات، ووضعت مقاومة الإرهاب، وتحديدًا قتال (داعش)، في أولى أولوياتها، وبات شرط إسقاط الأسد في أي عملية انتقالية يحتل مرتبة تالية.

هكذا، وبإلغاء هذا الشرط المسبق الذي كان أساسًا مطلب الشعب السوري الذي خرج في آذار/ مارس 2011 رافعًا مطلب الكرامة والحرية، ومناديًا بسقوط الأسد ونظامه، تنضمُّ آخر دولة غربية إلى دول أخرى سبقتها، وكانت أطلقت على نفسها مجموعة “أصدقاء الشعب السوري”، الشعب الذي بات اليوم حقًا بلا أصدقاء. لقد كان واضحًا منذ سنوات كيف أمكن، من وراء الإلحاح على مكافحة الإرهاب في سورية تحديدًا، أن يبلغ النظام الأسدي ومن وراءه، بالتدريج، مرامَهم في إلغاء كل أثر لثورة الشعب السوري، وفي محو، أو على الأقل في إزاحة، كل ما بذله ولا يزال يبذله طوال نيف وست سنوات من تضحيات في سبيل تحقيق ما خرج من أجله. صار الهدف الآن تحقيق اتفاقات وقف للقتال في المناطق السورية، تبرمها الولايات المتحدة وروسيا من فوق رأس الجميع، وعلى الجميع أن ينصاع لها كما جرى في منطقة جنوب سورية، وكما سيجري تدريجيًا وبالطريقة نفسها في مناطق أخرى.

أين الخلل؟ كيف أمكن أن تُخفى أو تختفي، شيئًا فشيئًا، كل التضحيات والآلام وضروب العذاب وراء المشهد الحالي؟ هل هو تأثير العوامل الخارجية وفعل القوى التي سرعان ما أطبقت على ثورة السوريين واستحوذت عليها مادة ومعنى ورمزًا؟ أم هو في قصور من تصدى لتمثيل الثورة من أفراد وهيئات ومجالس وجماعات ومنصات تقاسمت العواصم “الصديقة” لممارسة نشاطها والتعبير عن مواقفها التي كانت تلائم سياسة العاصمة التي تتواجد كل واحدة منها فيها؟ أم هو بفعل الاثنيْن معًا؟

لن يفيد اللجوء إلى نظرية المؤامرة، فضلًا عن أنه لن يكون مجديًا أو ذا معنى على كل حال. ومن المؤكد أن الجواب الذي قد يكون أكثر ملاءمة (وأكثر راحة أيضًا للتخلص من كل مسؤولية) يتمثل في القول إن ما حدث حتى الآن كان نتيجة تفاعل العوامل الخارجية والداخلية معًا، وإنه لا يمكن الحديث عن إحداها دون الحديث عن الأخرى. وسواء أكان خيار الإجابة اعتماد هذه أو تلك من العوامل، فإن التساؤل لا بدَّ أن يمسَّ -من أجل الحكم على فهم ما جرى ويجري والسلوك تاليًا بمقتضاه- مدى دقة تحليلاتٍ لا حصر لها، سواء تناولت العوامل الخارجية أو العوامل الداخلية، والدرجة التي أمكن لها، حتى مع دقتها، أن تخلو أو أن تتجنب التفسيرات الأيديولوجية أو الصيغ الجاهزة أو السرديات النمطية التي تحفل بها عادة مختلف الدراسات، الأكاديمية أو المقالات الإعلامية، حين يتعلق الأمر بالصراعات أو العلاقات الدولية.

لقد جرت العادة في السرديات الأيديولوجية، حول مشكلات العالم العربي منذ خمسينيات القرن الماضي، على توجيه أصابع الاتهام تارة إلى الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة العربية، وتارة أخرى إلى الاتحاد السوفيتي وحلفائه المحليين. وبسبب ذلك، أو ربما لذلك على وجه التحديد، ندرت الدراسات التحليلية الجادة التي تعتمد مناهج الدراسات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وتستدعي مختلف العوامل الفاعلة والمؤثرة في هذا الصراع أو ذاك، كي تبني نتائجها على المعطيات الملموسة أو تلك التي تستخلصها من وثائق أو دراسات أخرى ذات صدقية علمية معترف بها.

ومن المؤسف أن هذه العادة ما تزال متبّعة في الوقت الراهن في معظم ما يصل إلينا من دراسات وتحليلات، غربية وعربية، على الرغم من تغير الظروف والنظم والمصالح دوليًا وإقليميًا. إذ كثيرًا ما تتسلل ميول الباحثين الأيديولوجية، بما في ذلك كبارهم، إلى تحليلاتهم؛ فتفقدها جدواها العلمية وتنحدر بها إلى ما لا يليق بمنجزيها أو بالمراكز البحثية التي مولتها.

ولعل أكبر مثل على ذلك ما نقرؤه في بعض الدراسات التي تتناول الأوضاع الراهنة في المنطقة العربية والدول المجاورة لها، والتي تنطلق في تحليلها لمعظم ما يحدث فيها منذ نيّف وربع قرن من مشروع الولايات المتحدة الذي يستهدف إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط، دون الانتباه إلى تسلل السرديات النمطية ذات الطبيعة الأيديولوجية إلى تحليلها والخلخلة التي تصيب من ثمَّ نتائجه. فهل يمكن اليوم لباحث جاد فعلًا، على سبيل المثال، أن يؤكد في مثل هذا التحليل على اعتبار إيران دولة معادية للأمبريالية، مع أنه يكتب في البحث نفسه أن الثورة الإيرانية الشعبية صودرت من قبل الهيئة الدينية التي استأثرت بها وحولتها إلى ثورة “إسلامية”؟ وكيف يمكن إضفاء أي صدقية علمية على بحث لا يتناسى ما حدث في سورية عام 2011 بوصفه ثورة شعبية أو حراكًا جماهيريًا ذا طبيعة ثورية فحسب، بل يعتبر أن منشأ “المأساة السورية” هو دفع الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة بالجهاديين المتطرفين من أجل قلب “النظام القائم” الذي “لا يسير في ركابها”، كي ينتهي إلى أن يأخذ على تصريحات بعض المسؤولين الأوربيين “شيطنة الرئيس” بشار الأسد ونظامه كما لو كان هذا الأخير بحاجة فعلًا إلى من يشيطنه هو ونظامه؟  أيضًا، كيف يمكن لبحث يتجاهل كليًا طبيعة الأنظمة التي تحكم المنطقة أو اعتبارها بكل بساطة عاملًا ثانويًا في دراسته صراع القوى الكبرى والإقليمية ومآلاتها في المنطقة العربية؟ وماذا يمكن أن توصف به مثل هذه الأبحاث التي تنشر على أنها تتناول الوضع الراهن في “منطقة الشرق الأوسط” التي كتبت مؤخرًا ونشرت هذا العام، والتي تتجاهل مع ذلك حين تناولها “المأساة السورية” تواجد إيران العسكري ومعه كافة الميليشيات العاملة معها فضلًا عن الوجود العسكري الروسي الهائل في سماء سورية وعلى أراضيها؟ كذلك، هل يمكن لبحث جادّ فعلًا أن يوَصِّف الحرب التي تخوضها إيران في سورية مباشرة واعتمادًا على ميليشيات وكيلها في لبنان حرب الشيعة ضد السنة؟ أليس في ذلك ترويج لسردية نمطية تلغي بكل بساطة أو سذاجة عوامل التاريخ والجغرافيا في ثوابتهما خصوصًا؟

تلك عينة قصوى ولا شك من محاولات فهم ما يجري في المنطقة العربية، وتحديدًا في شرق البحر المتوسط، لكنها شديدة الدلالة في الوقت نفسه على ضروب التحليل والتفسير والفهم، وتحيل بالضرورة إلى طبيعة المواقف وردّات الفعل لدى كل من يتواجدون في موقع المسؤولية اليوم في الغرب، ويستمعون إليها بطريقة أو بأخرى. وهو ما يطلق عليه، بقدر كبير من الرعونة أحيانًا، السياسة الواقعية..




المصدر