لقاء بوتين- ترامب والاستحقاق السوري

20 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
24 minutes

مركز حرمون للدراسات المعاصرة

المحتويات:

مقدمة

أولًا: العلاقات الروسية- الأميركية قبل اللقاء

ثانيًا: القمة: نتائجها وانعكاساتها

ثالثًا: الدول الإقليمية المتدخلة: تموضعات واستحقاقات جديدة

رابعًا: المعارضة السورية واستحقاقات المرحلة

خامسًا: خاتمة

 

مقدمة

يكتسب لقاء الرئيسين الروسي والأميركي الذي جرى يوم 8 تموز/ يوليو2017 على هامش قمة العشرين في مدينة هامبورغ الألمانية اهتمامًا خاصًا، ليس لأنه اللقاء الأول بين الرجلين منذ أن تسلم ترامب مهماته في البيت الأبيض فحسب، بل لحجم القضايا العالقة بين الدولتين، والتوتر وانعدام الثقة والتزاحم الإستراتيجي، الذي يسم العلاقة بينهما في هذه المرحلة الحرجة.

مرة أخرى، حساب البيدر لم يطابق حساب الحقل كما كانت تأمل موسكو، وما أعلن عنه من نتائج جرى التوصل إليها لا يلبي طموحها، ولم تحظ بربط للملفات التي تقلقها، من أوكرانيا إلى سورية والعقوبات وتمدّد الأطلسي، كما لم تبدّد الشكوك الأميركية حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية، التي استغلتها أطراف كثيرة داخل الولايات المتحدة للتشكيك بشرعية ترامب وتقييد خياراته. كل ما أعلن كان نوعًا من المصادقة على اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب السوري الذي جرى التوصل إليه في عمان وأشيع خبره قبل اللقاء بفترة. هذا الإنجاز الذي دخل حيز الاختبار لمعرفة مدى تأثير روسيا على حليفيها إيران والنظام ومدى قدرتها على ضبطهما، هل يكون مقدمة لتعاون روسي أميركي مشروط في الملف السوري؟ وهل يتوقع تعميمه على مناطق أخرى؟ وكيف سينعكس على القضية السورية وتموضعات القوى الإقليمية المتدخلة فيها؟ أسئلة تفرض نفسها وتنتظر التطورات الميدانية والسياسية للإجابة عنها، لأن تجربة الهدن السابقة غير مشجعة، ولا يمكن الركون إليها، كما أن الصراع الروسي- الأميركي لا يُختصر بالساحة السورية، وهو ذو طابع استراتيجي كوني تحركه المصالح والأدوار وطبيعة التحالفات وتوزع خطوط القوة والنفوذ في العالم.

 

أولًا: العلاقات الروسية- الأميركية قبل اللقاء

اتّسمت العلاقات الروسية- الأميركية في الصراع السوري، سياسيًا ثم عسكريًا، حتى سقوط حلب الشرقية، بالمخادعة المرغوبة تحت عناوين البحث في إمكانات التعاون بينهما لإنهاء هذا الصراع، لكن بعد فشل اتفاق كيري- لافروف الشهير، الذي أظهر قوة الدولة العميقة في أميركا عند المنعطفات ذات الطبيعة الإستراتيجية، بدأت العلاقات بين الطرفين تختزن مزيدًا من التوتر والشك. فأميركا لم تقبل موسكو شريكًا في التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، من دون أن تمانع في أن تحاربه روسيا على طريقتها، إذا كانت جادة في ذلك؟ ولم تفتح باب المساومة، لا حول سورية ولا غيرها، وعليه فقد زادت موسكو من حجم تدخلها ودعمها لقوات النظام، وشقت مسار أستانا بالتعاون مع تركيا بغية فرض واقع سياسي وميداني، يضمن ما أمكن إنفاذ رؤيتها للحل، ويجنبها مطب جنيف1 وما تلاه من قرارات دولية شاركت في صوغها.

أضيف إلى هذا التوتر اتهام موسكو بالتدخل في الانتخابات الأميركية وإسهامها في إيصال ترامب إلى البيت الأبيض، حيث خلقت له مشكلة كبيرة ما زالت مشتعلة حتى الآن. من جهتها، زادت الولايات المتحدة من حجم تدخلها على الأرض، ومن زخم محاربة الإرهاب في الموصل والرقة وغيرها، وبنت قواعد، وسعت لكسب المزيد من الحلفاء المحليين الذين تقيم لهم القواعد وتقدم الدعم والتدريب والحماية، وبدا أنها تباشر إستراتيجية جديدة تجاه سورية والمنطقة، تغادر إستراتيجية أوباما في إعادة التموضع، لكن من دون أن تعلن عن فحوى هذه الإستراتيجية حتى الآن. إن الخط البياني للعلاقة الروسية- الأميركية على الساحة السورية، يشير إلى تصاعد في التوتر، منذ أن ضرب الطيران الأميركي موقعًا للقوات السورية في “جبل الثردة”، وحمل رسالة إفشال اتفاق كيري- لافروف، إلى ضرب مطار الشعيرات، وحتى إسقاط الطيران الأميركي طائرة للنظام عندما تقدمت قواته صوب الرقة واصطدمت بقوات قسد، واضطرت لافروف إلى التصريح مهددًا بـ “أن طيران التحالف يمكن أن يكون أهدافًا محتملة” بغض النظر عن جدية التهديد أو القدرة على تنفيذه.

بينت الحوادث، ما بعد حلب، أن روسيا تستعجل الحل، وأميركا تبطئه. فروسيا تخشى ولا تريد أن تُدفع أكثر للانزلاق في المستنقع السوري، وتخسر رهاناتها في التدخل، في حين أن أميركا تعمل على تأخير عملية الدخول في الحلول حتى تمسك بأكبر قدر من مفاتيح الحل ميدانيًا وسياسيًا، وهنا يكمن مبعث القلق الروسي. وقد انعكس هذا الحال في جو التشاؤم وخفض سقف التوقعات من لقاء ترامب وبوتين عند مجمل المسؤولين والمتابعين الروس، فرئيس المجلس  الروسي للسياسة الخارجية والدفاعية، فيودور لوكيانوف، توقع- على الرغم من قناعته بأن ترامب يرى “أن روسيا مفيدة في بعض القضايا”- ألا يسفر اللقاء عن نتائج، إلا أن الأغرب هو ما كتبه في هذا الشأن حين قال “إن الغرب لا ينوي التدخل في سورية، بل اتخذ قرارًا بتقسيمها، وأن روسيا ستجد نفسها أمام خيارين، إما الضلوع في حرب بلا آفاق والدفاع عن المصالح السورية والإيرانية وخسارة كل شيء في المنطقة نتيجة لذلك، وإما إقناع بشار الأسد بقبول تقسيم سورية، وفي هذه الحالة ستحافظ موسكو على الأرجح على قاعدتي حميميم وطرطوس”، وهو أمر يتطلب التوقف مليًا عنده. فهل هي رسالة تهديد للأميركيين عشية القمة، بأن موسكو ستذهب في خيار منفرد بالتقسيم، إذا استمرت واشنطن في مواقفها؟ وهل تستطيع روسيا تحمّل تبعات ذلك؟ وماذا سيكون موقف حليفها الإيراني؟ أم هو مجرد كلام اعتاد المسؤولون الروس على التلاعب به؟

 

ثانيًا: القمة، نتائجها وانعكاساتها

عُقد اللقاء كما كان مقررًا، واستغرق وقتًا أطول مما كان مخصصًا له، وتطرق إلى أغلب الملفات العالقة بين الطرفين، في سورية وأوكرانيا والعقوبات، لكن الموضوع الأبرز الذي خيّم على الاجتماع، دار حول التدخل الروسي في الانتخابات الأميركية الذي نفاه بوتين مجدّدًا، وفقًا لما غرّد به ترامب، لكن كان لافتًا تصريح السيناتور ليندسي غراهام حين وصف الاجتماع بـ “أنه كارثي”، وقال “إن ترامب يريد العفو عن بوتين وتناسى الأمر، لذلك يتعزّز تصميمي على وضع اقتراحات بعقوبات جديدة على بوتين إلى الرئيس ترامب”. من جهته، فإن السيناتور جون ماكين، وفي ردّ على تغريدة أخرى لترامب حول إمكانية التعاون والمضي قدمًا، قال “نعم حان الوقت للمضي قدمًا، لكنْ هناك ثمنٌ يتعين دفعه”. هذا يدلّل على أن العلاقات الروسية- الأميركية ستبقى إلى حين رهينة التجاذبات الداخلية الأميركية، ويمكن بناءً عليه تفهم كيف أن القمة خرجت بنتيجة وحيدة متواضعة ومعلنة تتعلق بخفض التوتر في جنوبي سورية (محافظات القنيطرة، درعا، والسويداء) بحسب المسمّى الروسي، وبمنطقة آمنة، أو ما شابه، بحسب التوصيف الأميركي. ومن المعلوم أن هذا الاتفاق كان منجزًا في عمان قبيل القمة، حيث جرت مفاوضات استمرت شهرين بين روسيا وأميركا والأردن، وفي الخلفية “إسرائيل” وهي أكثر المعنيين، وتوصلت إلى أن تكون هذه المنطقة خالية من أي وجود لإيران والميليشيات التابعة لها، وأولها حزب الله اللبناني.

بعيدًا من إطناب الإعلام الروسي في تضخيم هذا الإنجاز وعَدّه نصرًا للسياسة والمواقف الروسية في مواجهة الغرب، ورضوخًا أميركيًا للإرادة الروسية، واعترافًا بدور موسكو ومصالحها في سورية، فإن الاتفاق ما زال غامضًا، إما لكونه غير مكتمل ويحتاج إلى مزيد من المفاوضات لرسم خطوط التماس، وتحديد عمق المنطقة وآليات المراقبة ومن سيقوم بها، أو لأنه يتضمن بنودًا ويرتب التزامات على الأطراف الموقِّعة، تحتاج إلى بعض الوقت والتدابير لإبلاعها للأطراف المتضررة منه، لكن يبقى الأهم، أنه سيكون محكّ اختبار لجدية الروس ولقدرتهم على إلزام حلفائهم، وإجلاء إيران وتوابعها بعيدًا من هذه المنطقة.

يشكك كثيرون في إمكانية نجاح هذا الاتفاق، فهو جرى بعيدًا من مشاركة، أو حتى أخذ رأي، الأطراف المعنية، المحلية والإقليمية، وتُطرح مزيد من الأسئلة والاستفسارات حوله وحول نيات الطرفين، وحول عمق المنطقة المستهدفة، فهل سيبلغ الحدود الإدارية لمحافظة ريف دمشق، أم سيُكتفى بعمق 30 كم أو 50 كم، حيث يمكن أن يصل إلى حدود مطار دمشق الدولي، الذي يعسكر بقربه الحرس الثوري الإيراني ويستخدمه في نقل الأسلحة والعتاد والمقاتلين؟ وما هو موقف إيران عندئذ؟ وبما أن الاتفاق برمّته هو مصلحة إسرائيلية، فهل ستقبل “إسرائيل” بانتشار الشرطة العسكرية الروسية لتنفيذه؟

لا شك في أن روسيا ستكون حريصة على تنفيذ هذا الاتفاق، كونه يُمثل فرصة أولى أمام الروس، تقبل فيها الولايات المتحدة أن تتعاون معهم بطريقة ما، وسوف يكون لهذا الاختبار ما بعده، أقلّه في الملفّ السوري، لكن المهمة لن تمر بالبساطة التي يظنونها، فإيران التي ستُخرج من الجنوب، من المؤكد أنها ستحاول تخريب الاتفاق، إذا لم تأخذ في جبهة أخرى، كذلك النظام السوري سيعمل على التشويش على هذا الاتفاق إن لم نقل تخريبه، على الرغم من أنه لم يُعلّق عليه حتى الآن، وربما ينتظر الثغرات في الاتفاق ليعرف كيف يجب أن يتصرف.

في جميع الأحوال، من المبكر الجزم بإمكانية نجاحه من عدمه، لكن إذا كانت الولايات المتحدة جادة في تنفيذه، وحريصة على مصالح حليفيها، “إسرائيل” والأردن، فإن ذلك يزيد من حظوظه بالنجاح، وسيفتح في المجال أمام مدّه إلى مناطق أخرى، وبدء مرحلة جادة من البحث عن حلّ سياسي للقضية السورية، كثيرًا ما عملت الولايات المتحدة على تأخيره. لكن، مع كل الاحتمالات والشكوك التي تكتنف تطبيقه، فإنه سيكون له تأثير كبير على مواقف الدول الإقليمية المتدخلة، وسوف يدفعها إلى إعادة حساباتها وإعادة ترتيب أوراقها، فالهوامش التي كانت تستغلها على أرضية التنافر الروسي- الأميركي ربما تضيق، وتستدعي تموضعات جديدة لهذه الأطراف في ميادين الحرب وفي السياسة، وربما تحالفات من نوع جديد!؟

ثالثًا: الدول الإقليمية المتدخلة: تموضعات واستحقاقات جديدة

1- إيران

حين ينصّ الاتفاق بشأن الجنوب السوري على أن تكون المنطقة المعنية خالية من الوجود الإيراني وأي ميليشيات أجنبية، فإن ذلك يعني تلقائيًا أن إيران هي المستهدفة به، مستهدفة بوجودها العسكري الذي سعت إليه ليكون في المستقبل ساحة مساومة مع “إسرائيل” على الأدوار والنفوذ، ومستهدفة في تحالفها مع الروس، وهو المطلب الأميركي الأبرز في سياسة الإدارة الجديدة لفكّ عرى هذا التحالف الروسي- الإيراني، وتسهيل مهمتها بتقليص النفوذ الإيراني في سورية والعراق.

لم يتضح حتى الآن كيف ستكون ردّة الفعل الإيرانية ، وما خيارات إيران، فالاتفاق لا يضعها في صدام مع الروس فحسب، ويهدِّد جديًا تحالفها معهم، بل مع الإسرائيليين والأميركان معًا؛ لذلك فمن المتوقع أن تتحسب كثيًرا في ردات فعلها، وأن تميل إلى الأفعال أكثر من التصريحات والتهديد، كعادتها، يظهر هذا في تصريحات مسؤوليها المختصرة والعمومية؛ فقد صرح الناطق باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي بقوله “إن اتفاق الهدنة في الجنوب الذي أعلن عنه الرئيسان الأميركي والروسي، ليس ملزمًا لإيران”، في حين طالب مسؤولون آخرون بسرعة تعميم وقف إطلاق النار على الأراضي السورية كافة، مشيرين إلى أن إيران مستعدة للمشاركة في ضمان وقف إطلاق النار. قد يكون من السذاجة الاعتقاد، بأن إيران ستبلع الاتفاق وتداعياته، وتسحب ذيولها من الميليشيات من تلك المنطقة، لكن ما هي ممكنات الردّ الإيراني، وعلى أي الجبهات؟

بدايةً، زادت إيران من حشودها قبالة المنطقة المعنية، على الرغم من ثبات وقف إطلاق النار، الذي سرى مفعوله ابتداءً من 9 تموز/ يوليو 2017، ولم تسجّل خروقات ذات معنى حتى الآن، فهل هو استعداد إيراني لاستغلال أي ثغرة يمكن أن تنشأ؟ أم ستعمل، هي والنظام، على خلقها والتذرّع بها لاستئناف العمليات العسكرية؟ هذا غير مستبعد.

جبهة الردّ الثانية ستكون منطقة عرسال والحدود السورية- اللبنانية، فقد هدّد حزب الله بشن حرب في هذه المنطقة لطرد “الإرهابيين” منها، على حد قول حسن نصر الله في خطابه الأخير، وإحكام سيطرته على الحدود السورية- اللبنانية، وقد بدأت نذرها باجتياح الجيش اللبناني لمخيّمات اللاجئين السوريين، وهدم خيمهم واعتقال المئات، وقتل بعضهم تحت التعذيب الوحشي.

ستكون جبهة البادية أكثر الجبهات المستهدفة بالردّ الإيراني في هذه المرحلة، فالمزيد من الميليشيات الإيرانية يتجه إلى محاور القتال، في محاولة من إيران للسيطرة على أكبر مساحة من البادية السورية والحدود السورية- العراقية، وتأمين طرق الربط والإمداد فيها، كي تحافظ على حلم الربط البري بين طهران والمتوسط، ولتفرض نفسها والنظام طرفًا في محاربة “داعش” في دير الزور، وطرفًا في أي تسويات يمكن أن تحصل في هذا الجزء من سورية الغني بالثروات، كالنفط والفوسفات، لذلك هي تخوض سباقًا محمومًا مع الأميركان وحلفائهم المحليين للوصول إلى دير الزور والبوكمال. وعندما يُصرّح مسؤول الملفّ السوري في وزارة الخارجية الأميركية، مايكل راتني، بـ “إن شمال السويداء والقلمون غير مشمولين بقرار وقف إطلاق النار”، فهل معنى ذلك أنه يرمي جزرة لإيران لإبعادها عن جبهة الجنوب من دون ضجيج؟ وهل ستفهم منه إيران بأنه مسموح لها العمل في هاتين المنطقتين، وهما بوابتان مهمتان نحو البادية؟

يمكن أن يكون العراق أيضًا أحد ساحات الردّ الإيراني، فتزيد إيران من ضغوطها على رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي. وما تحذير المرشد الإيراني للعبادي من محاولة إضعاف الحشد، إلا تهديد مباشر بتحريك الحشد لإفشال السياسات الأميركية ومن يتعاون معها هناك، وأيضًا دفعه نحو إقليم كردستان والتهديد باجتياحه في حال خطا الإقليم أي خطوات نحو الاستقلال بعد الاستفتاء المنوي إجراؤه قريبًا.

أما على المستوى السياسي، فمن المستبعد أن تتعجّل إيران بتوتير العلاقة مع الروس على خلفية اتفاق الجنوب، أو ما يمكن أن يلحق به من اتفاقات مع الأميركيين، لأن إيران في حاجة إليهم في ظل التوجه الأميركي الجديد، تمامًا كما هم في حاجة إليها في وجودها الكثيف على الأرض. وبالمقابل، فإن روسيا لن تغامر في مسايرة التوجّهات الأميركية من دون مقابل معقول، لا يبدو أن الإدارة الأميركية في وارد تقديمه حتى الآن، وبناءً على هذه المستجدات، وبانتظار الاختبار العملي لاتفاق الجنوب، يُرجّح أن تميل إيران إلى دبلوماسية هادئة ومناورة على المستوى السياسي، وتصريح علي شمخاني إثر لقائه الموفد الروسي لطهران بـ “أن الاتفاق الثلاثي ملائم لحلّ أزمات الإقليم”، يدلل على هذا التوجه، وبموازاة ذلك إلى تحرك ميداني نشط على أكثر من جبهة لا تضطرها إلى الاصطدام بالأميركان، لأنها تعرف أن لديهم القدرة على إيذائها، إن لم يكن عسكريًا، فمن خلال دعم القوى المناوئة لحكم الملالي في الداخل الإيراني المأزوم. ومن جهة أخرى، قد تهيئ هذه التطورات الأجواء لعلاقات أقلّ توترًا مع تركيا على الساحة السورية.

2- تركيا

تركيا، هي الأخرى، تجد نفسها معنية بالتطور الأخير في سورية، بخاصة إذا نجح اتفاق الجنوب، وجرى تعميمه على الشمال السوري المشمول باتفاق خفض التصعيد في المناطق الأربع، الذي أقره أستانا 3، وتركيا هي إحدى الدول الضامنة في ذلك الاتفاق. إن أكثر ما يُقلق تركيا هو الجفاء الذي يعتري علاقتها بالولايات المتحدة، حليفتها التاريخية، عندما استُبعِدت عن معركة الرقة، وحُجّمت اندفاعتها في عملية درع الفرات، وتوترت علاقاتها أكثر مع الاتحاد الأوروبي، يُضاف إلى كل هذا وضعها الداخلي الذي تسربت إليه الهشاشة منذ انقلاب العام الماضي الفاشل، الأمر الذي يجعل هاجسها من نشوء كيان كردي على حدودها الجنوبية مضاعفًا.

تعي تركيا أن الولايات المتحدة، والغرب عمومًا، تسعى لتحجيم طموحاتها ودورها في الإقليم، ومنه الساحة السورية، وهذا ينعكس إرباكًا في سياساتها وتحركاتها، فسورية مهمة لأمنها القومي ومصالحها، ولا تريد أن تخسر نفوذها، وعليه فإنها، هي الأخرى، مضطرة إلى إعادة حساباتها وترتيب أوراقها بشكل يأخذ التوجه الدولي الجديد في الحسبان، ولذلك فإن تهديدها بإطلاق عملية عسكرية جديدة تحت مسمى سيف الفرات، بعد أن حشدت لها على حدود عفرين، لن تستطيع تنفيذه إلا من ضمن ترتيبات مع كلّ من روسيا وأميركا قد يكون من المبكر الجزم بإمكان حصولها.

3- السعودية

على عكس كل من إيران وتركيا، يُلاحظ أن المواقف السعودية تجاه الصراع في سورية، والذي كانت نشطه فيه، يلفّها الآن الصمت أو التجاهل، من دون الإعلان عن توجهات جديدة للسياسة السعودية. وهناك احتمالات ثلاثة لهذه التوجهات، الأول أنها قررت، نزولًا عند نصائح أميركية، أن تُفرّغ جهدها لإنهاء حرب اليمن، والثاني أنها آثرت أن تعمل بصمت بعدما اهتزّ تعاونها مع تركيا في الملف السوري، والثالث أنها اندرجت ضمن الإستراتيجية الأميركية الجديدة لمعالجة صراعات المنطقة بجملتها، بعدما اطمأنت لتوجهات ترامب، وفي هذا الاحتمال يمكن ملاحظة أنها انفتحت أكثر على العراق، واستقبلت رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، بعدما بقي باب الرياض موصدًا في وجه المالكي، ولهذا دلالته التي تصب في خانة ترجيح الاحتمال الأخير.

4- الأردن

حرص الأردن منذ اندلاع الصراع في سورية وتدويله على تأكيد أنه لا يريد التدخل في هذا الصراع، لكن هناك كثير من العوامل، التي تجبره على أن يتابع تطوراته باهتمام وحذر شديدين، إذ تربطه بمنطقة الجنوب وشائج وعلاقات قوية بحكم الجغرافيا والتاريخ، وقد لجأ إلى أرضه ما يعادل ثلث عديد سكانه، وهو الفقير بالموارد والإمكانات، كما أنه يخشى من التمدد الإيراني في سورية، وكان أول المحذرين من خطر الهلال الشيعي، وهو أيضًا يخشى بالقدر ذاته التنظيمات الجهادية العابرة للحدود كالقاعدة وداعش والنصرة وغيرها. والأردن، بحكم علاقاته التحالفية مع أكثر من دولة متدخلة في الصراع، وجد نفسه مقرًا لفاعليات ومراكز تدريب وتحشيد وتنظيم لفصائل مسلحة، ولغرفة الموك التي تدير الملف في الجنوب السوري. وهو شارك في أكثر من مؤتمر دولي لبحث القضية السورية، وأخيرًا كان طرفًا في الاتفاق الثلاثي بخصوص الجنوب السوري، وسيكون طرفًا في آليات مراقبته أيضًا.

في حال نجاح الاتفاق ورسوخه، فإن الأردن سيكون قد ضمن أمن حدوده الشمالية، وتجنّب إشكالات التدخل العسكري، وسوف يعيد مئات الألوف من اللاجئين السوريين إلى ديارهم، ويتخلص من عبئهم الاقتصادي والأخلاقي، أما في حال فشل الاتفاق، فمن المؤكد أنه سيجد نفسه مضطرًا ذات يوم إلى التدخل من ضمن تحالف يجمعه إلى الولايات المتحدة وآخرين.

رابعًا: المعارضة السورية واستحقاقات المرحلة

كما هي العادة، فقد رحبت المعارضة السياسية في هيئة التفاوض والائتلاف بالاتفاق، وطالبت بتعميمه على الأراضي السورية كافة. أما لجهة المعارضة المسلحة، فإن جبهة الجنوب، وهي المعنية بشكل أساسي بالاتفاق، أصدرت بيانًا تعلن فيه قبوله والتزامه، وعتبت على أطرافه لاستبعادها من المفاوضات حوله، وأخذت على الاتفاق أنه يُبعد إيران وميليشياتها من الجنوب، ويُبقيها في محيط دمشق، حيث ستبقى خطرًا يهدد سورية وثورتها، إلا أن الرسالة الأهم في هذا البيان، وهي موجهة إلى فصائل الشمال، تُفيد بأن جبهة الجنوب كانت وستبقى جزءًا من قوى الثورة، وأن أحدًا لن يستطيع دقّ إسفين بينها وبين بقية قوى الثورة في أنحاء سورية الأخرى.

يبدو أن الثورة السورية وتعقيدات الحالة التي أحاطت بها، قد أوقعتها ضحية لعبة أمم لا ترحم، كلفت السوريين أثمانًا باهظة، وأصبحت قوى الصراع المحلية خارج حسابات وتقاطع مصالح الدول المتدخلة، منذ أن أحكمت الولايات المتحدة قبضتها على هذا الصراع، لذلك لم يعد مستغربًا أن يُوقع ويٌعلن اتفاق الجنوب، وأي اتفاق لاحق، من دون علم أي طرف سوري، وتصبح معها جولات جنيف تقطيعًا للوقت، ريثما ينضج توافق بين الدول المتدخلة لإنهاء هذا الصراع الدامي، فهل تستسلم قوى الثورة لهذه الحالة، أم أنها ستتمكن من الخروج عليها؟ تجربة المعارضة، سياسية كانت أم عسكرية، لا تشجع في هذا الشأن، لكن في جميع الأحوال فإن نهاية الصراع لن تعني نهاية الثورة، والرهان سيبقى مفتوحًا ومعقودًا على إرادة الشعب السوري في تعديل هذا المسار.

خامسًا: خاتمة

لعل تصريح الرئيس الروسي قبل القمة بـ “أن هذه المرحلة هي الأسوأ في تاريخ العلاقات الروسية- الأميركية”، هو أبلغ تعبير عن حقيقة العلاقات بين الدولتين، وليس مجرد حيطة أو خفض لسقف التوقعات، فالتوتّر بينهما تزداد حدّته، وإمكانية التعاون ما زالت بعيدة، فثمة تداخلات وخلافات عميقة تخصّ أميركا أو حلفاءها تحول دون هذا التعاون، الأمر الذي تخشى معه روسيا من أن تنزلق أكثر في الصراع السوري، أو تنجرّ عن غير قصد إلى تصادم مع الولايات المتحدة، لا تريده، وليس في قدرتها؛ وعلى الرغم من أنه جرى التطرق إلى جميع الملفّات العالقة بين الطرفين، لكن النتيجة اقتصرت على اتفاق وقف إطلاق النار في الجنوب، الذي عَدّته روسيا إنجازًا مهمًا، كونه، في حال نجاحه- وإنجاحه مهمة روسية- يفتح ثقبًا في جدار العلاقات بينهما، يمكن أن يشجع على خطوات أخرى في سورية، أو غيرها، وعندها سيرتب على جميع الأطراف المتدخلة التعامل مع هذه التطورات، وأن تكون مستعدة للتعاطي مع مرحلة جديدة عنوانها الميل لتعاون أكثر بين الروس والأميركان على الساحة السورية.

وبعيدًا من النيات والرغبات، يبدو أن التعاون ما زال بعيدًا، على الأغلب، مادام، حتى الآن، مشروطًا بعبارة “إذا كان الطرف الآخر مستعدًا”، في أي تصريح لمسؤولي الدولتين، يخصّ الملف السوري.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]