من أين تؤكل الكتف؟


غسان الجباعي

تسويق الكاتب وأعماله الإبداعية مسألة في غاية الأهمية، ولا غنى عنها في عملية الترويج والتبادل الثقافي، بين المبدع والناس “الجمهور”، لكن يخطئ مَن يظن أن هذا التسويق يجعل الروايةَ السيئة روايةً عظيمة.

لقد انتشرت -في الفترة الأخيرة- ظاهرة غريبة، وهي أن يقوم الكاتب -شخصيًا- بكتابة خبر عن نفسه وعن كتابه الجديد، ثم لا يكتفي بنشر الخبر على صفحته الشخصية، في شبكة التواصل مثلًا، بل يقوم بنسخ الخبر ولصقه وإرساله إلى مختلف الصحف لنشره! وقد لا يكتفي بذلك بل يفعل ما هوى أدهى، عندما يكتب مقالًا نقديًا عن نفسه، ويكلف أحد أصدقائه بنشره؛ ثم يفتعل مشكلة وصراعًا حوله، وهكذا… ظنًا منه أنه بدأ يعرف “من أين تؤكل الكتف”! ما أدري إن كان هذا السلوك سويًّا، أو إن كانت هذه المهمات منوطة بالكاتب أصلًا؛ فنشر الكتاب وإشهاره وتوزيعه من مهمات دور النشر، كما نعلم، وحتى لو فرضنا أن الكتاب سلعة مثل بقية السلع (المحارم والعطور والأحذية والمراهم…) فمن المفروض أن توجد شركات مختصة بالدعاية والترويج لها.

يقول المتنبي عن قصيدته:

أنام ملء جفوني عن شواردها

ويسهر الخلق جرّاها ويختصِمُ

ومع أني لا أتفق كثيرًا مع هذه “العنجهية”، غير أني متأكد من أن الإبداع الحقيقي هو ذاك الذي يعلن عن نفسه بنفسه؛ فالعمل السيئ مهما فعلت من أجل إشهاره، لن تستفيد شيئًا، لأنك إنما تقوم بنشر القباحة! والعمل الجيد الجميل مهما حاولت طمسه وتهميشه، سيطل برأسه ويعلن عن جماله ويثبت حضوره، عاجلًا أو آجلًا.

مئات الكتّاب والكتب السيئة تم تعويمها إعلاميًا وسياسيًّا، لكن النسيان طواها إلى الأبد. لا أريد أن أذكر أسماء، فمن منا يستطيع أن ينسى أولئك الشعراء والروائيين “الكبار” الذين سوّقهم الاستبداد والفساد وأنتجوا في ظله مئات الكتب، وتم تعويمهم وتعويم كتبهم، عبر الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، وتم نشرها –طبعًا- في الصحف والدوريات المحلية، وترجمت بعض كتبهم إلى عشرات اللغات، كما نالت الجوائز الأدبية، وكُرّم أصحابها الموالون للسلطات الحاكمة والمتحزبة… لكن الزمن لا يرحم المزيفين والطارئين، وبخاصة أولئك الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، “أشباه المبدعين” ومثقفو السلطة الذين تصنعهم السياسة والدعاية والإعلان والعلاقات العامة! فالتاريخ ذاكرة الناس والأجيال، وسيد القراء والنقاد طُرًّا، وهو كفيل بكشفهم، ودفعهم مع بضاعتهم إلى مزبلة الثقافة والفكر، وهو كفيل -أيضًا- بإعادة الاعتبار إلى المبدعين الحقيقيين الذين تم تهميشهم، سنوات طويلة. فالاستبداد لا يقف في وجه الإبداع الحر فقط، بل يعمل جاهدًا على وأد الجمال الكامن فيه.

كتب “فيودور دستويفسكي” أول رواية له (“الفقراء” أو المعدمين)؛ وقرر عام1846 ، عرضها على أهم ناقد أدبي في ذلك الوقت، هو فيساريون بيلينسكي. لم يكن اللقاء، مع عَلم من أعلام الفكر والنقد الروسي، أمرًا سهلًا أو متاحًا لكاتب مغمور في الخامسة والعشرين من عمره؛ ومع ذلك، تمكن دستويفسكي أخيرًا من الوصول إلى مكتب الناقد المهيب. كان شابًا طويلًا نحيلًا يحمل في يده مخطوطًا، وما أكثر الشبان الذين دخلوا إلى هذا المكان وطلبوا من بيلينسكي قراءة أعمالهم! وضع دستويفسكي مخطوطه فوق رزمة من المخطوطات التي سبقته، وغادر المكتب. وقبل أن يأوي بيلينسكي إلى فراشه، وفيما كان يرتب تلك المخطوطات، لفت انتباهه عنوان الرواية “الفقراء”. قلب الصفحة الأولى وقرأ بضعة أسطر ثم… لا يدري كيف جلس، ثم كيف اصطحب الرواية إلى سريره، ولم يتركها حتى بزوغ الفجر.

في اليوم التالي، بدأ بيلينسكي العظيم يبحث عن ذلك الشاب الطويل النحيل الذي يدعى فيودور دستويفسكي، وقد قال له عندما وجده كلماته المشهورة:

“سيأتي على روسيا روائيون كثر، وستنسى روسيا معظمهم، أمّا أنت فلن تنساك روسيا أبدًا، لأنّك روائي عظيم”.




المصدر