الأفكار بين التوريث والتأسيس


عبد الحميد يونس

الفكرة الواحدة، أو مجموعة الأفكار، تنتقل من شخص إلى شخص، ومن جيل إلى جيل، عن طريق التّواصل بين البشر، وهذا التّواصل لن يتحقّق بشكله المجدي إلاّ عبر اللغة، شفهيّة كانت أم مكتوبة.

الإنسان يرِث الأفكار كما يرث الأرض، أو الثّروة، أو الفقر، ويورّثها أيضًا. وقد ينثرها أو يزرعها، أو يُعيرها، أو يحتفظ بها مؤونة للشتاءات المفاجئة. من جانب آخر، الأفكار التي يورّثها أو يتوارثها، ستشكّل في النّهاية رصيده من القناعات والقيم والمحددات الثّقافيّة أو المعرفية التي ستغذّيه، ويتفاعل معها في علاقاته مع أبناء جنسه. وبقدر ما تشكّل هذه المنظومات المعرفيّة والثّقافيّة والقيميّة عواملَ استقرار وضمان واطمئنان لصاحبها أو حاملها، بقدر ما يتمسّك بها ويعدّها جزءًا من شخصيّته أو ممتلكاته أو ذاته. هذا نفسه سيدفعه للدفاع عنها والتمسك بها، ويدفعه للخوف عليها من تهديدات محتملة أو قائمة. من هنا؛ غالبًا ما تخضع الأفكار الجديدة إلى كثير من الحذر والتّروّي، وربّما الشكّ أو الرّفض، ولا سيّما عندما تهدّد بحضورها بعض ما استقرّ في الذّهن، أو نام في مستودعات الوعي، أو تمشّى هنا أو هناك في أرض الواقع، ما بين الأصدقاء أو المعارف أو أطراف بساتين الحياة.

إنّ الفكرة الجديدة القادمة تحتاج إلى قوّة مضاعفة لأجل إثبات الوجود. وهي -مهما كانت صحيحة- لن تستطيع أن تجد بسهولة مكانها المناسب، بل كثيرًا ما تواجَه بالرّفض أو بالحذر، حتّى لو كان ما تهّدده من أفكار أخرى، باتت في لحظة ما موضع شكّ أو تساؤل أو ضيق صريح.

قلّة ٌأولئك الجريئون القادرون على أن يجددوا أفكارهم أو يسعوا إلى التجديد!

الأفكار الجديدة، حتّى حين نسّلم بصحّتها، عندما تهدّد قناعاتنا أو بعض قناعاتنا؛ سننظر إليها كأنها تهدّدنا في أنفسنا، وتهددنا في وجودنا، لذلك، كثيرًا ما نعمل على دحرها بما أنّها لم تكتسب بعد قوّة الشرعيّة! واعتراف الآخرين. من هنا يتعرّض مبدعو الأفكار الجديدة أكثر من سواهم للتّهم، وكثيرًا ما يجابهون بالشكوك، ولا سيّما من قبل العقول المستقرّة فوق قناعاتها الدّاجنة. ولسوف تغدو الأفكار الجديدة، بغضّ النّظر عن نصيبها من الصّحة والسّداد، من ألدّ الأعداء وأشدّها خطورة، علمًا أنّ العقول الرّافضة نفسها ستغدو في وقت لاحق -إذا ما نجحت الجديدة في صراعها لإثبات الوجود- من أكثر المتمسّكين بها، المدافعين عنها وعن بقائها، بكلّ السّبل.

ألا ما أروغ الأفكار الجريئة التي ينال بها أصحابها الهوان والشقاء، وعندما تعود لتنال الحظوة بعد إهمال، والصدارة بعد ازدراء، سيكونون هم -يا للسخرية- في أحضان التراب “يتململون”!!

ستبقى الأفكار الجديدة -مهما كان وزنها أو حجمها أو لونها أو طعمها- بدعةً في العقول المكتفية، والمجتمعات المدجّنة، أو جزءًا من بدعة، ما دامت لم تنل شرعية الحضور، أو لم تمهر بالقبول الرّسمي، أو تعطى وثيقة حسن سلوك!

إنّ التّاريخ حتّى الآن -وربّما إلى الغد أو إلى الأبد- ليس فقط تاريخًا من الصّراع بين القوى الحاكمة والمحكومة، المالكة والمملوكة، المتضرّرة والمستفيدة، ولا تاريخًا من الصّراع بين الأقوياء على مناطق النّفوذ والمصالح والمطامع فحسب، إنّه كذلك في المستوى عينه هو صراع بين الأفكار، الجديدة منها مع القديمة، الحية منها مع الميتة، الصحيحة منها مع الفاسدة. هذه معركة محكومة بالدّوام، ظاهرة خافية، معلَنة مضمرَة، حارّة باردة، في وقت واحد. حينًا تأخذ طابعًا مسالمًا؛ فتغدو شكلًا من أشكال الوقود الذي نحتاجه لتستمرّ طاقة الحياة في الجريان، وأحيانًا تأخذ الشّكل المتوحّش الذي يؤمن أوّل ما يؤمن بخديعة: نحن أو لا أحد.

علمًا أنه ليس من المؤكد تمامًا، ولا من المحتم، أنّ كل الأفكار المُحدَثة هي بالضرورة على صواب، ولا هي دائمًا في سنّ الشباب.

افتحْ نوافذ بيتك لأشعّة الشّمس، فما تُميتُه أضواء النّهار لن تحييه عتمات الليل.                افتح نوافذ بيتك لنَسمِ الهواء، لأنّك لن تستطيع أن تغلقها إلى الأبد.

افتحْ نوافذ بيتك لمواكب النور، لا تخشَ رعشة الضّوء ولا هدهدة الرّيح.

افتحْ نوافذ بيتك لزرقة السماء وفوضى الغيوم، دعها تهامس رحابة المدى وأنسام الشذى، لأنّها مخلوقة للفتح وليس الانغلاق.

افتحْ نوافذ بيتك لإبداع الحياة، واعلم أن أفكار البشر كالبشر؛ تعيش ثم تموت ثم تتعفّن ثمّ يتنبّت جديدها في تقلبات الفصول، واعلم أنّ كل ما ليس جديرًا بالبقاء، ستكنسه مكنسة الأيّام، إنْ لم يكن هذا اليوم، فغدًا أو بعد غد.




المصدر