الغارديان: طاغية متنكر: مهمة رجل واحد لتحطيم الديمقراطية


أحمد عيشة

إن رؤية جيمس ماكجيل بوكنان للرأسمالية الشمولية قد أفسدت السياسة العامة في الولايات المتحدة. الآن أرى بوضوح أنها قد استهوت السياسيين البريطانيين.

لقد وضع بوكنان برنامجًا خفيًا لقمع الديمقراطية لصالح الأغنياء جدًا. إنه إعادة تشكيل السياسة. رسوم: سيباستيان ثيبولت.

إنّه الفصل المفقود: مفتاحٌ لفهم السياسة في نصف القرن الماضي. أن تقرأ كتاب نانسي ماكلين الجديد، الديمقراطية مقيدة: التاريخ العميق لخطة تسلل اليمين المتطرف لأميركا، هو أن نرَى ما لم يكن مرئيًا من قبل.

بدأ عمل أستاذة التاريخ، في هذا الموضوع، عن طريق الصدفة. في عام 2013 عثرت بالصدفة على منزلٍ صفيحي مهجور في حرم جامعة جورج ميسون في ولاية فرجينيا. كان محشوًا بمحفوظاتٍ غير مصنفة لرجلٍ توفي في ذلك العام، واسمه ربّما غير مألوف لك: جيمس ماكجيل بوكنان. وتقول إنّ أولَّ شيء التقطته هو كومةٌ من الرسائل السرية المتعلقة بملايين الدولارات المحوّلة إلى الجامعة من الملياردير تشارلز كوخ.

تظهر اكتشافاتها في بيت الأهوال هذا، كيف أنّ بوكنان، بالتعاون مع أقطاب رجال الأعمال “البزنس”، والمعاهد التي أسسوها، أسسّ برنامجًا سريًّا لقمع الديمقراطية نيابةً عن الأغنياء جدًا. هذا البرنامج هو الآن يعيد تشكيل السياسة في أكثر من مكان، وليس فقط في الولايات المتحدة.

تأثر بوكنان بشدة بالليبرالية الجديدة لكلٍّ من فريدريك هايك، ولودفيج فون مايسس، والنزعة الاستعلائية المتفوقة للملكية الخاصة لـ جون كالهون، الذي جادل في النصف الأول من القرن التاسع عشر بأنَّ الحرية تتركب من الحق المطلق في استخدام ممتلكاتك الخاصة (بما في ذلك عبيدك) كيفما تشاء أو تريد؛ وأيّ مؤسسة تتعارض مع هذا الحق هي عامل قمعٍ، يستغل رجال الملكية نيابةً عن الجماهير غير المستحِقة.

جمع جيمس بوكنان هذه الآثار معًا لخلق ما أسماه نظرية الاختيار العام أو خيار الجمهور. وقال: إنّ المجتمع لا يمكن اعتباره حرًا ما لم يكن لكلّ مواطنٍ الحق في الاعتراض على قراراته (المجتمع). وما كان يعنيه بذلك هو أنّه لا ينبغي فرض ضرائب على أيّ شخصٍ ضد إرادته. لكن الناس كانوا يستغلون الأغنياء عن طريق استخدام أصواتهم للمطالبة بالأموال التي حصلوا عليها، أو كسبها الآخرون، من خلال الضرائب غير الطوعية لدعم الإنفاق العام، والرعاية الاجتماعية. إنَّ السماح للعمال بتشكيل نقابات العمال، وفرض ضرائب الدخل المتدرجة أو التصاعدية هي أشكالٌ من “التشريعات التفريقية أو التمييزية”، ضد مالكي رأس المال.

أيّ صدامٍ أو مواجهة، بين “الحرية” (بما تعنيه السماح للأغنياء أن يفعلوا ما يريدونه) والديمقراطية، يجب حلّه لصالح الحرية.

في كتابه (حدود الحرية)، أشار إلى أنَّ “الاستبداد قد يكون البديل التنظيمي الوحيد للبنية السياسية التي نحترمها ونلتزم بها”. الاستبداد دفاعًا عن الحرية.

كانت وصفتهُ “ثورة دستورية”: خلق قيودٍ نهائية لا رجعة عنها للحدِّ من الخيار الديمقراطي. وقد قامت برعايته، طوال حياته العملية، المؤسسات الثرية والمليارديرات والشركات، حيث وضع تفسيرًا نظريًا لما ستبدو عليه هذه الثورة الدستورية، إضافة إلى استراتيجيةٍ لتنفيذها.

وأوضح كيف أنَّ محاولات إزالة التمييز في التعليم في الجنوب الأميركي قد تكون محبطةً من خلال إقامة شبكة من المدارس الخاصة التي ترعاها الدولة. وكان أولّ من اقترح خصخصة الجامعات، وفرض رسومٍ دراسية كاملة على الطلاب. كان هدفه الأصلي هو سحق النشاط الطلابي، وحثَّ على خصخصة الضمان الاجتماعي، والعديد من الوظائف والمهمات الأخرى للدولة؛ سعى إلى تحطيم الروابط بين الناس والحكومة، وهدم الثقة في المؤسسات العامة. كان يهدف، باختصارٍ، إلى إنقاذ الرأسمالية من الديمقراطية.

وفي عام 1980، تمكّن من وضع البرنامج موضع التنفيذ، ودُعي إلى تشيلي، حيث ساعد ديكتاتورية بينوشيه على كتابة دستورٍ جديد. وفي خضم التعذيب والقتل، نصحَ الحكومة بتمديد برامج الخصخصة، والتقشف والضبط النقدي، ورفع القيود وتدمير النقابات العمالية؛ وهي حزمةٌ ساعدت في بدء انهيار الاقتصاد في عام 1982.

من خلال نصيره في جامعة ستوكهولم، أسار ليندبيك، مُنِح جيمس بوكنان جائزة نوبل التذكارية للاقتصاد. وهو واحدٌ من عدة قرارات حوّلت هذه الجائزة إلى جائزة قاتلة.

لكن بدأ الإحساس حقًا بسلطته عندما قرّر كوخ -وهو سابع أغنى رجلٍ في الولايات المتحدة- أنَّ بوكنان يمسك بمفتاح التحول الذي سعى إليه. وقد رأى كوخ أنّ هؤلاء الأيديولوجيين مثل ميلتون فريدمان، وآلان غرينسبان، “خونةٌ (يتخلون عن مبادئهم مقابل المال)”، لأنهم سعوا إلى تحسين كفاءة الحكومة بدلًا من تدميرها تمامًا. ولكن بوكنان استغل كلَّ الوسائل.

تقول ماكلين أنَّ تشارلز كوخ ضخَّ الملايين، في عمل بوكنان في جامعة جورج ماسون التي تبدو كليات القانون والاقتصاد فيها مثل مراكز الأبحاث التي تمولها الشركات، كما تفعل الكليات الأكاديمية. وقد اسهم الخبير الاقتصادي في اختيار “الكادر” الثوري الذي سينفذ برنامجه (موراي روثبارد، في معهد كاتو الذي أسسه كوخ، كان قد حث الملياردير على دراسة أساليب لينين وتطبيقها على القضية التحررية). وفيما بينهم، بدؤوا بوضع برنامج لتغيير القواعد.

تظهر الأوراق التي اكتشفتها نانسي ماكلين أنَّ بوكنان رأى التسلل أساسيًّا، وقال لمعاونيه: إنّ “السرية التآمرية ضروريةٌ في جميع الأوقات”. وبدلًا من الكشف عن وجهتهم النهائية، فإنهم سيمضون قدمًا بخطواتٍ تدريجية. على سبيل المثال، في محاولة لتدمير نظام الضمان الاجتماعي، فإنهم سيدعون أنهم منقذوه، بحجة أنّه سيفشل من دون سلسلةٍ من “الإصلاحات” الجذرية. (الحجة نفسها تستخدم من قبل أولئك الذين يهاجمون وكالة الصحة الوطنية البريطانية). تدريجيًّا سوف يبنون “أنتلجنسيا مضادة”، متحالفة مع “شبكة واسعة من السلطة السياسية” التي من شأنها أنْ تصبح المؤسسة الجديدة.

من خلال شبكة من مراكز البحوث التي يرعاها كوخ، وغيره من المليارديرات، ومن خلال تغييرهم للحزب الجمهوري، ومئات الملايين التي ضخوها في سباقات الكونغرس والقضاء، ومن خلال التحكم الشامل بإدارة ترامب من قبل أعضاء هذه الشبكة، وحملاتٍ فعالة قاتلة ضد كل شيء من الصحة العامة إلى العمل على تغير المناخ؛ سيكون من الإنصاف القول إنَّ رؤية بوكنان تنضج في الولايات المتحدة.

ولكن ليس هناك فقط. وأنا أقرأ هذا الكتاب شعرت بإزالة الغشاوة عن النافذة التي من خلالها أرى السياسة البريطانية. شعلة الأنظمة التي أبرزتها كارثة برج غرينفيل، وتدمير بنية الدولة من خلال التقشف، وقواعد الميزانية، وتفكيك الخدمات العامة، والرسوم الدراسية والسيطرة على المدارس؛ كل هذه التدابير تتبع برنامج بوكنان حرفيًا. وأتساءل كم من الناس يدركون أن مشروع ديفيد كاميرون للمدارس الحرة يستبدل تقليدًا ويهدف إلى عرقلة الفصل العنصري في الجنوب الأميركي.

وفي أحد الجوانب، كان بوكنان على حق: هناك صراع متأصل بين ما أسماه “الحرية الاقتصادية” والحرية السياسية. الحرية الكاملة للمليارديرات تعني الفقر وانعدام الأمن والتلوث وانهيار الخدمات العامة للجميع. ولأننا لن نصوّت لهذا، فإنه لا يمكن تقديمه إلا من خلال الخداع والسيطرة الاستبدادية. إنّ الخيار الذي نواجهه هو بين الرأسمالية غير المقيدة والديمقراطية، ولا يمكن لك أن تختار الاثنين معًا.

برنامج بوكنان هو وصفةٌ للرأسمالية الشمولية. وقد بدأ تلاميذه للتو في تنفيذه. ولكن على الأقل، بفضل اكتشافات ماكلين، يمكننا الآن فهم الأجندة (جدول الأعمال). واحدة من القواعد الأولى للسياسة هي أنْ تعرف عدوّك، ونحن عرفناه.

اسم المقال الأصلي A despot in disguise: one man’s mission to rip up democracy الكاتب جورج مونبيوت، George Monbiot مكان النشر وتاريخه الغارديان، The guardian، 19/7 رابط المقالة https://www.theguardian.com/commentisfree/2017/jul/19/despot-disguise-democracy-james-mcgill-buchanan-totalitarian-capitalism ترجمة أحمد عيشة


المصدر