ثقافة نفتقدها نحن السوريين

21 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
7 minutes

بسام جوهر

من المظاهر الجميلة والملفتة للانتباه في فرنسا، ظاهرة العمل التطوّعي ومدلولاتها الاجتماعية، وتقدير الفرنسيين لهذه الظاهرة وتشجيعها، بحيث تحوّلت مع الزمن إلى ثقافة فرضت نفسها، وغدت موضع احترام وتقدير.

في سورية، وخاصة في عهد حافظ الأسد، كان المواطن وبشكل خاص الموظف، عندما يسمع بـ (يوم عمل طوعي)، يتملّكه شعوران متناقضان، الأول هو قناعته بعدم الذهاب والمشاركة بهذه المهزلة التي تُسمّى (يوم عمل طوعي)، والثاني هو الخوف والرعب من عدم الذهاب، لما يترتب على غيابه من تداعيات، تبدأ من سؤال المسؤول الأمني في منطقة عمله، أو ربما استدعاء إلى الفرع (والسوري يعرف ما معنى كلمة الفرع)، وقد يصل الأمر إلى قطع رزقه وفصله من العمل، بسبب نقص في منسوب الوطنية لديه وفقدانه لشعور العمل الجماعي التطوّعي في خدمة الوطن والمواطن!.

أما في فرنسا -كما أرى وأسمع- فإن العمل التطوّعي هو ثقافة موجودة ومحترمة من قبل جميع الفرنسيين، فالشباب يحرصون على القيام بهذا العمل، لما لذلك من تأثير إيجابي على سجلّهم وسيرتهم الذاتية، يساعدهم في البحث عن عمل لدى المؤسسات والشركات العاملة في فرنسا، أما الكبار في السنّ، فتجدهم في جميع المؤسسات والجمعيات الاجتماعية غير الحكومية يقدّمون الخدمات المجانية للفرنسيين وغير الفرنسيين، وهم بذلك يقومون بأداء خدمات مهمّة للناس وفي الوقت نفسه يمضون وقت فراغهم بشكل مفيد بل ممتع، من خلال التواصل مع الناس والتعرّف على أحوالهم.

تقول الدكتورة (نيكول) وهي امرأة في السبعين من عمرها، لكنها نشيطة وتحمل دكتوراه في الأدب الإنكليزي، وقد تعرّفت عليها في إحدى الجمعيات، تقول: “أعمل هنا في هذه الجمعية، كمتطوعة، لمدة ثلاثة أيام في الأسبوع، أمضي وقتي بشكل مفيد وأتعرّف على أحوال الناس، وبخاصة اللاجئون السوريون، وأحاول مساعدتهم قدر الإمكان”.

وفعلًا لدى الدكتورة نيكول عائلة سورية مؤلفة من أب (منفصل عن زوجته) وطفل وطفلة صغار في السن، حيث أصبحت نيكول هي الأم والراعية للطفلين.

خلال العام الدراسي، أرسلت لي إحدى الجمعيات (بناءً على طلبي) مُدرّس رياضيات لتدريس بناتي، وهو مُدرّس متقاعد يعمل في هذه الجمعية متطوّعًا، يأتي مرتين في الأسبوع وفي الوقت المحدد، وعندما أحاول أن استبقيه بعد الدرس لبعض الوقت، يقول لي: “لدي طلّاب آخرون ينتظروني”.

في سورية لا يمكن لأي مدرّس، سواء كان على رأس عمله أو متقاعدًا، أن يعطي دروسًا مجانية (طبعًا عدا العلاقات الشخصية)، خاصة بعد انتشار الدروس الخصوصية والكسب المادي الفظيع الذي يجنيه المدرّس من وراء ذلك، بحيث كنت تسمع أن الأستاذ فلان ساعته بـ 1000 ليرة وما فوق.

ظاهرة أخرى لمستها في فرنسا، وهي ظاهرة استضافة الفرنسيين لعائلات اللاجئين في بيوتهم، حيث تقوم كثيرٌ من العائلات الفرنسية باستضافة عائلات أو أفراد لاجئين لفترة محدودة (ريثما تقوم الدولة الفرنسية بتأمين السكن المناسب)، وطبعًا دون مقابل ودون معرفة مسبقة ودون النظر إلى الجنس أو العرق أو الدين، وكثيرًا ما يقوم الفرنسي، أثناء سفره لقضاء إجازته، بإعطاء اللاجئ مفتاح بيته، بكل ما فيه من أثاث، لمدة أسبوع أو اثنين وحلًا لمشكلة مؤقتة، مع ما يعني ذلك من استخدام كل ما هو خاص به، من السرير إلى أدوات المطبخ، وهناك الكثير من العائلات السورية الذين تمّ استضافتهم من قِبل فرنسيين، وأقاموا معهم علاقات ودّية وصداقات يعتز بها الطرفان.

طبعًا لا يخلو ذلك من بعض الحالات الشاذة التي أصبحت موضع استياء وتندّر لدى السوريين أنفسهم، مثل حالة الشاب السوري الذي دخل فرنسا (تهريب) وتمّت استضافته من قبل عائلة فرنسية لمدة أربعة أشهر، كان هذا الشاب متديّنًا ويمارس طقوسه من صلاة وعبادة في البيت بأريحية تامة، لكن ما لفت انتباه العجوز صاحب البيت هو أن هذا الشاب، على لباقته وأناقته، كان، في كل مرّة بعد تناول وجبة العشاء وأثناء مساعدة المرأة صاحبة البيت بتنظيف مائدة الطعام، ينقل جميع الصحون إلى المطبخ إلا كأسَ النبيذ الفارغ الذي اعتاد صاحب البيت أن يشربه أثناء العشاء، وعندما تكررت هذه الحالة عدة مرّات، سأله صاحب البيت: “لماذا تأخذ كل ما على المائدة إلى المطبخ ما عدا هذا الكأس؟”؛ أجابه الشاب: “لأن ذلك حرام في ديننا”.

طبعًا أصبح ذلك موضع تندّر لدى الكثير من السوريين هنا، حيث يقولون: أن يسكن عند هذه العائلة ليس حرامًا وأن يأكل من أكلهم ليس حرامًا وأن، وأن.. إلخ، فقط نقل الكأس الفارغ إلى المطبخ هو الحرام.

ومن الظواهر المحترمة أيضًا، احترام الدور، سواء في المؤسسات والدوائر الحكومية أو في أماكن التسوّق، فما إن تدخل أي دائرة أو مؤسسة حتى ترى مجموعة من الناس تنتظم في صف ينتظرون دورهم دون تذمّر، فلا يوجد هنا خط عسكري وآخر مدني ولا دور للنساء وآخر للرجال، ولا يوجد هنا مسؤول له الأولوية في كل شيء أو رجل مخابرات يحرّك مسدسه على خصره للفت الانتباه، حتى السوريون هنا تعلّموا الوقوف في الدور وبانتظام.

هذه بعض المظاهر الجميلة والمحترمة التي لمستها في فرنسا، ودعتني لمقارنتها بما يحدث في بلدي سورية، هذه الثقافة التي وصل إليها المجتمع الفرنسي هي ثقافة تدعو إلى التأمل والتفكير في كيفية وصول هؤلاء الناس إلى هذا المستوى الحضاري والإنساني، ثقافة نفتقدها نحن -السوريين- إلا ما ندر.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]