من نهاية الثورة بنهاية الحرب إلى نهاية الحرب بنهاية الثورة


رعد أطلي

كلما ازداد عدد القوات والدول المشاركة في الصراع على سورية، وكلما كثرت الأقدام العسكرية التي تدوس أرضها من مختلف الجنسيات وعلى مستويات عدة، من الأفراد إلى الميليشيات إلى الشركات إلى الدول؛ ازداد، بمفارقة عجيبة، الإصرارُ على أن الحل السياسي هو الطريق الوحيد لوقف نزيف الدم في سورية، وقد يضمن الحل السياسي، في حال حدوثه، مصالح القوى المتصارعة على الأرض في سورية، ولكن مَن يضمن مصالح الشعب السوري؟ وما هي مصالح الشعب السوري؟ ومن هو أساسًا الشعب السوري؟ ليس كجماعة سياسية فحسب، بل كجماعة اجتماعية؟ وهل المعارضة -بما تنتجه من ورقيات، تكاد تكون شهرية، عن الحل السياسي- قادرةٌ فعلًا على صياغة هذا الحل “الشرعي” الذي يمثل طموح الجماعة السورية؟ هل بقي أساسًا هناك دور للسوريين، وبخاصة المعارضة، في صياغة الورقة النهائية للحل، صياغة تعيد لتلك المعارضة مكانتها التي يُفترض أن تكون عليها؟

قبل أن نناقش أي عملية سياسية من الممكن أن تعتمدها المعارضة، لإنتاج وضع جديد يعيد تموضعها في مكان المشارك أو المحاور، على الأقل في ما يحصل في سورية، علينا أن نناقش ماهية الجماعة التي يُفترض أن تمثلها مؤسسة ما في السياسة. من هي تلك الجماعة؟ وما هي المرتكزات التي يمكن أن تبني عليها أيُّ طبقة سياسية سياساتها، لتكون ممثلًا شرعيًا لتلك الجماعة. والمرتكزات ليست المتصورة أو المستنبطة ممّا يمكن أن تكون عليه احتياجات تلك الجماعة، وإنما الاحتياجات الفعلية التي تعبر عنها الجماعة، من خلال سلوكيات أفرادها وتوجههم العام، تلك الدافعة إلى سعي مشترك لتحقيق هدف أو أهداف معينة، يتوافق عليها أفرادها لتكون لها هوية متماسكة. إن تفكك المعارضة وتشرذمها عائد، بالدرجة الأولى، إلى سبب موضوعي يرتبط بتفكك وتشرذم الجماعة السورية أو المجتمع السوري ذاته؛ مما شكل مجموعتين من الاحتياجات: الأولى احتياجات متصورة للجماعة ككل، بناء على اعتبارها قوية ومترابطة، شكلت عنوانًا واضحًا للمشروع السياسي للثورة السورية، من الدعوة إلى إطلاق الحريات وبناء دولة المواطنة إلى احترام حقوق الأفراد والجماعات، إلى غيرها من الشعارات التي يحتاج إليها المجتمع السوري بالفعل، لو أنه استمر مجتمعًا واحدًا. والثانية احتياجات فعلية فئوية ناتجة إمّا من جوع قومي وسيادي أو من أوهام بالهروب إلى الخلف، لإعادة أمجاد مبنية على أساس (إعادة خلق الأسباب سيوفر خلق النتائج)، أو من شعور حادّ بالهوية الخاصة والحاجة إلى حمايتها وتحقيق مكتسبات أخرى لدى الأقليات، وهي احتياجات أقل وطأة، لكنها جدية مبنية على أساس مناطقي وجهوي، فضلًا عن الانتماءات الحمائية التي تجعل توفيرَ الأمن على مستوى الأمان على حياة الشخص، أو على مستويات أقل كتوفير الحالة المعيشية وعدم التعرض للخطف أو السرقة أو غير ذلك، مركزًا لهويات مؤقتة. كل ذلك يعبّر عن حالة من التناقض والبلبلة، ترتد بطبيعة الحال على الطبقة السياسية المتواجدة حاليًّا داخل الائتلاف وخارجه، ولو شئنا أن نواجه أنفسنا بصدق؛ فإن تلك القوى السياسية تمتلك شرعية التمثيل للمجتمع السوري على اعتبار تشابه البنى؛ لذلك يجب العمل بشكل جدي على بناء الجماعة السورية بالدرجة الأولى، قبل أي شيء آخر.

وليس هذا أمرًا سهلًا ولا هو بمتناول اليد، ولا يوجد الوقت الكافي له، لكن ما من طريق غيره، والكثيرون يرون أن العمل على بناء تلك الجماعة إنما يكون بعد الحل السياسي، وليس قبله. هذا إن كان هناك حلٌّ سياسي، وحسب كل الطروحات والمبادرات، فإن الحل السياسي لن يفضي إلى إسقاط الأسد أو إسقاط نظامه على أقل تقدير؛ وبالتالي لن يمكّن الحل السياسي الجماعة السورية في الغالب من بناء ذاتها، بوجود عناصر من النظام القديم، وهكذا فكأن الثورة لم تقم.

لماذا بناء الجماعة السورية هو أولوية على الحلول والعملية السياسية برمتها؟ لأنه سيحدد مصير الثورة السورية ومآلاتها بالكامل.

ما الذي يجعل الثورة السورية مستمرة إلى الآن؟ هل استمراريتها ناتجة عن ديناميات ذاتية ما زال المجتمع السوري الذي انبثقت منه قادرًا على توليدها؟ بمعنى أوضح، لو أن ترامب غدًا صباحًا التقى ببوتين وتم طرح تسوية تكفل مصالح كلٍّ من روسيا والولايات المتحدة في سورية، وتشكل طمأنة إقليمية بطريقة ما، وتم الاتفاق على إنهاء الحرب في سورية على أن يبقى الأسد رئيسًا، ويعود الحال إلى سابق عهده، ويتم تصفية (داعش) وباقي الفصائل، بما فيها الجيش الحر، من قبل الروس وغيرهم، ويتم الدعوة إلى مصالحات ضمن وعود خلبية من الأسد بالإصلاح، وبعيدًا عن واقعية هذا الطرح؛ فما الذي يمكن للمعارضة فعله، وبعيدًا أيضًا عن الشطحات الصوفية المتعلقة بأنّ “الشعب السوري سيرفض، ولن يخضع.. إلخ”، ماذا يمكن أن يحصل، ما هي مرتكزات تلك المعارضة التي تمكنها من رفض حلّ كهذا، بل ما هي إمكاناتها الآن في ما يحصل للاجئين في لبنان أو حتى ظروف معيشتهم في الأردن وتركيا.

إن الثورة مستمرة، لأن الحرب بين القوى العظمى مستمرة، أي أنها لم تعد متولدة ذاتيًا من مجتمعها، بل خرجت مولدات استمراريتها إلى بؤر أخرى بعيدة عن المجتمع السوري، وليس استمرارية رفع العلم والنشاط الثوري هنا أو هناك إلا هوامش على سيرة الحرب، فكيف يمكن لنا أن نعيد للثورة مركزيتها، في هذه المعمعة من الفوضى؟ سيكون ذلك بعمل جماعي على مستوى الشعب السوري عمومًا، عمل جماعي يمكن، عبر تنظيمه في أطر سياسية واجتماعية معينة، تحويله إلى عمل اجتماعي، ولذا علينا أن نركز على بناء جماعة سورية تشعر بالانتماء والهوية السورية ولو بالحد الأدنى، وهذا العمل -بالرغم من صعوبته- ليس مستحيل الحدوث، ولكنه لا يحتاج إلى أطر نظرية فحسب، ولكن إلى تنظيم سياسي يعمل ليل نهار، وبرامجه التنفيذية على الأرض تكاد لا تتوقف، ومن الممكن بالدرجة الأولى الاستفادة من لاجئي أوروبا، والآن وليس لاحقًا، فما زال السوريون إلى اليوم في أوروبا سوريين، لأنهم ما زالوا، من خلال التعامل معهم، يشعرون بسوريتهم، وعلينا أن نستغل ذلك، لأنه بعد سنة أو سنتين، حينما يختفون في الورشات والمكاتب والجامعات، وعلى عادة السوري الذي يتأقلم في أي مكان وتحت أي ظرف؛ سيتدنى إلى حد بعيد شعورهم بسوريتهم كجماعة تحلم ببناء دولة تشابه ما رأوه هنا، ويبقى شعورهم كأفراد يرتكز بالدرجة الأولى على حنين إلى سهرة عائلية أو زيارة خاطفة إلى بلد جميل، أي سيتضخم انتماؤهم العاطفي على حساب انتمائهم العقلاني؛ ولذا من الضروري أن يكون العمل على بناء الجماعة السورية “بالحد الأدنى”، ضمن برامج مدروسة بعناية ومكثفة. ذلك هو المفتاح الرئيس للبدء بعملية تغيير وإعادة مركزة الثورة بيد السوريين، وتغيير الواقع المفروض، من “نهاية الثورة بنهاية الحرب”، إلى ما يجب أن يكون عليه: “نهاية الحرب بنهاية الثورة”.




المصدر