النازحون الحلبيون ينشرون “التجارة شطارة” في اللاذقية


هيفاء بيطار

يُفترض أن أكون متحيزة لأهل مدينتي اللاذقية، لكن الحقيقة بأن الحلبيين الذين يزيد عددهم عن مليوني نسمة في اللاذقية وحدها أذهلوني (كما أذهلوا كل شعب اللاذقية) بنشاطهم وإبداعهم وقدرتهم على التأقلم، والأمل العميق الكامن في نفوسهم بأن حلب ستعود كما كانت. يتميز شعب اللاذقية بالكسل؛ فالدكاكين عادة تفتح حوالي الساعة الحادية عشرة والنصف أو الثانية عشرة. ويُغلقونها 4 ساعات ظهرًا للقيلولة! وحين نزح الحلبيون إلى اللاذقية قدموا لنا نموذجًا رائعًا لاحترام العمل والنجاح في كل مشروع يقومون به، أعرف أحد الشبان الحلبيين يغسل السيارات، كل يوم من الثامنة صباحًا حتى السادسة مساء، وبيته في حلب مُدمر.

حين زرت ذات يوم قرية الدريكيش، بدعوة من صديقي الرائع الدكتور منير شحود مع شلة من الأصدقاء. شحود من أشهر أساتذة التشريح في جامعة تشرين، وقد فُصِل من الجامعة، لأنه وقّع على إعلان دمشق؛ فصار يقضي معظم وقته في منزله في الدريكيش يزرع ويهتم بالأرض. ومع أنه، بعد فصله من جامعة تشرين، حصل على عقد عمل في جامعة خاصة، لكن المخابرات لم تتركه بأمان، بل ظلت تقصد الجامعة حتى اضطر مدير الجامعة إلى أن يعتذر منه عن التدريس فيها.

يستحق شحود أن يعرفه كل الناس لنزاهته ووطنيته وثقافته وشجاعته، لكن ما لفت نظري، حين زرته في الدريكيش، هو تلك النهضة التجارية والعمرانية العظيمة التي جعلت الدريكيش أشبه بالمدينة، وتعرفت فيها على أسرة من حلب مؤلفة من أب وابنتين مراهقتين (الأم للأسف متوفاة)، هذه الأسرة نزحت من حلب إلى الدريكيش واستأجرت غرفتين صغيرتين، إحدى الغرف للمنامة والأخرى أنشؤوا فيها مشغلًا أو معملًا لصناعة مواد التنظيف، ولم يساعد الأبَ وابنتيه أحد، وبعد سنتين من العمل، تحول هذا المشغل البسيط المؤلف من غرفة إلى معمل للمنظفات، يعمل فيه عشرات العمال.

أبدع الحلبيون في كل المهن التي يمارسونها، ويكفي أن نلقي نظرة على دكان أبو عبدو الفوال -وهو بائع فول وحمص في شارع الصليبة- حتى نرى طابورًا من الناس يقفون بانتظار دورهم في شراء أشهى فول من دكان أبو عبدو الفوّال. حتى الأرصفة في اللاذقية فُرشت بشتى أنواع البسطات التي تبيع كل ما يخطر على البال وما لا يخطر عليه، واستمعت إلى قصص مُروعة لحلبيين، فقدوا متاجرهم وبيوتهم وسوّيت بالأرض؛ ومع ذلك امتلكوا الهمة والأمل والقدرة لبناء مستقبل والعمل الجاد المُنتج. في الواقع أحدث الحلبيون نهضة حضارية في اللاذقية، واختلف موقف أهل اللاذقية وتحديدًا تجارها فبعضهم عدّ الحلبيين منافسين له، واستعمل تعبير (أكلوا لقمتنا)، والبعض ابتهج لوجودهم واعتبرهم نموذجًا يُحتذى به. لكن أي عودة هذه ونحو 90 بالمئة من حلب مُدمّر، من سيرمم بيوت هؤلاء المنكوبين الحلبيين الذين ينتظرون كيس حليب الأطفال وزجاجة الزيت النباتي، ساعات أمام مراكز الإغاثة، متحملين الحر والبرد ويحملون أطفالهم الرضع الذين يعانون من أمراض الفقر العديدة.

حين زرت مُخيمات الحلبيين في المدينة الرياضية باللاذقية؛ أذهلني البؤس والجوع، فالمئات يسكنون خيمًا بالية بائسة ممزقة، تكاد الحدود بينها أن تكون معدومة، وكانت “الدولة السورية” تقدم لهم طعام غداء، (الله أعلم بمكوناته) مرق أحمر ونتف من اللحم تحتاج إلى مجهر لرؤيتها، وأمام مركز توزيع الطعام مئاتُ الأطفال يحملون قصعات البلاستيك، ليحصلوا على ما يُسمى طعامًا يسد جوعهم.

حدثتني طفلة اسمها هبة تسكن الخيمة مع تسعة من أفراد أسرتها بأن “الحكومة” أوقفت تقديم العشاء لهم، بعد أن كانوا يوزعون لهم معلبات (طون وسردين)، وحكت لي بصوتها الطفولي الحزين المشروخ إنها تبقى يقظة كل الليل من الجوع. لا ينفك اللصوص تجار الحروب عديمو الضمير عن سرقة لقمة الفقراء، فذات يوم وجدت في أحد “المولات” الكبيرة في اللاذقية علب “تونا” مكتوب عليها: مُخصص لمخيم الزعتري. سبحان الله! مَن الذي هرّب المعلبات المخصصة لمخيم الزعتري في الأردن وتاجر بها، وأوصلها إلى اللاذقية لبيعها! أي ضمير ميت أن يسرق إنسان لقمة فقير ونازح يموت من الجوع.

الآن، والجحيم السوري يدخل عامه السابع، نسمع السفير السوري في لبنان يُطالب كل السوريين في لبنان بالعودة إلى سورية الآمنة! وفي اللقطة التالية في نشرة الأخبار بعد حديثه، نسمع موظفين ومسؤولين لبنانيين يصرخون مناشدين الدولة اللبنانية والسورية بأنه لم يعد يوجد مكان في الأرض اللبنانية لدفن الأموات السوريين. فأي تناقض هذا وأيّ مهزلة! وإلى أين سيعود السوريون القاطنون في لبنان، وبيوتهم مدمرة في سورية، وهم يعيشون على المساعدات. وبكل خجل وأسى، أذكر برنامجًا بثه التلفزيون السوري، حين زارت أنجلينا جولي الممثلة العالمية وسفيرة النوايا الحسنة مخيمَ الزعتري في الأردن وحكت عن البؤس الفظيع لهذا المخيم الأكثر تعاسة، يومئذ غصت نشرات الأخبار في وسائل إعلام النظام بعبارة: “ممثلة هوليود المُندسة أنجلينا جولي”. واتهموها بنواياها العاطلة ورغم بؤس الموقف، فإن عبارة مُندسّة أضحكتني كي أبكي. فثمة بعض العبارات الدارجة في سورية مثل المُندس و”الشبيح”.. إلخ.

أي كلام غير مسؤول ومنفصل عن الواقع يتشدق به المسؤولون السوريون واللبنانيون بضرورة عودة النازحين إلى سورية الآمنة. سورية التي لم يبق شاب واحد إلا وحاول الهروب من الموت فيها وحيازة لقب الشهيد البطل.




المصدر