تحت مستوى الوعي
23 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
محمود الوهب
بداية لا بدّ من الإشارة إلى أنَّ ما حصل في سورية وبعض البلاد العربية قد هزَّ كيانات السوريين والعرب عمومًا، ودفعهم للسؤال: لماذا جرى ما جرى؟! وعلى الرغم من كثرة الإجابات وتنوعها، إلا أنَّ الذهنية السورية أو العربية المتقاربة في مستوى تعاطيها مع الأشياء والأفعال، ما عادت تكتفي بمقولة المؤامرة التبريرية، كما أنها لم تعد تقبل بإلقاء اللوم على جهة بعينها.. فهي تريد الذهاب إلى الأبعد والأعمق، لتذهب في النتيجة نحو تشخيص فعلي يوضح المرض؛ ما يعني إيجاد حلول شافية لهذه الأمراض التي تفتك بجسد الأمة وروحها، إن لم تكن قد فتكت، وألقت بها خارج التاريخ والحياة المعاصرة.
من هنا يقدم الصحفي الفلسطيني أيمن خالد، في كتاب صغير لا يتجاوز الستين صفحة من الحجم المتوسط، حقيقةَ أوجاع مجتمعاتنا، عبر بؤر ضوئية تنير جوانب من حياتنا السياسية والفكرية والاجتماعية في إطار ما سمَّاه، تحت مستوى الوعي، ليأخذ بعدئذ في الشرح والتفصيل لهذا العنوان، عبر ستة فصول ومقدمة وخاتمة تعنى كلها بتجليات ذلك المستوى الفعلية. ولعلّ المؤلف، هنا، يقترب من مقولة ياسين الحافظ حول الوعي المطابق.. ومما جاء في المقدمة أوجزه بما يلي:
“تحت مستوى الوعي هو ذلك المستوى الذي يصبح فيه الإله مجرد بقرة هندية في أعين قطاع كبير من أبناء البشر.. ومنهم العلماء والمفكرون والأطباء وعموم الفئات المتعلمة التي لا تستطيع أن تنزع عن عقلها فكرة أن يكون الإله بقرة هندية..”. وأعني بذلك تحويل الإله من معنى للقيم الإنسانية إلى وثن جامد وحجر أصم.. لتتحول هذه الفكرة على نحو آليٍّ إلى عبادة الحكام المستبدين الذين غالبًا ما يتشبهون بالآلهة، ولتحجب بذلك أبجدية الوعي الحقيقي، فلا وعي لمن لا يتجرأ على نقد حاكمه، وأساليب حكمه…!
وإذا تجاوزنا الفصل الأول المعنون بالمدرسة الذي سيرد تفصيلًا له في الفصل السادس، فإننا نأتي إلى الثاني: “انتظام القانون” إذ يحاول الكاتب تأكيد وجود حالتين اثنتين في مجتمعاتنا، فإما أنْ تُغَيِّبَ حكومة الاستبداد القانون كليًا، لتحِلَّ محله سطوة المستبد وجلاوزته، وبالتالي؛ إلغاء دور الفرد والمجتمع على السواء، فالمجتمع في هذه الحال ليس أكثر من قطيع تابع بعيد عما يمنحه حرية الحركة والإبداع نموًا وارتقاء! الأمر الذي يمهد الطريق أمام التطرف الديني الذي هو وجه آخر للاستبداد..
في الفصل الثالث المعنون بـ: “الإسلام السياسي”، يتعمق الكاتب أكثر فأكثر موضِّحًا فكرة مسألة استمرار الدين، معيدًا إياها إلى قوَّته الذاتية، ومضمونه الحيوي، لا إلى من يتخذه وسيلة للقوَّة، ولمصالح دنيوية، مشيرًا إلى أنَّ الخلافات الإسلامية/ الإسلامية المستمرة منذ انقسامها الأول بين الخوارج وخصومهم، لم تكن حول نصوص قرآنية أو شرعية، بل كانت حول مصالح سياسية، لامتيازات خاصة! لتخضع النصوص، بعدئذ، وتفسِّرها بما يخدم تلك المصالح والسياسات..
يؤكد المؤلف من جهة ثانية أنَّ دولة الإسلام الأولى، في المدينة المنورة، لم تكن لتقوم على النصوص، بل على التوافق الديني والقبلي، حتى إنَّ المنافقين أخذوا شيئًا من راحة، وكان الرسول عليمًا بهم، ولم يعترضهم مباشرة، لكنه أبقاهم تحت المراقبة موكلًا إياهم إلى “حذيفة بن اليمان” كاتم أسراره.. يقول الكاتب:
“دولة المدينة المنورة هي مجرد اتفاق مدني بين الناس، إذ جعل فيها النبي حكم القاضي فوق حكم السلطان، وجعل فيها قائد العسكر ينشغل بجيشه المدافع عن الحدود وحسب. ولم يسمح بدخول الجيش أو حاملي السلاح إلى المدينة، وأما الحاكم فكان، بعد النبوَّة، يقوم باختيار الناس، إذ إن حكم القضاء كان يأتي على قاعدة مكارم الأخلاق وأعراف الناس، وما حرَّم من الخمر وغيره على المسلمين، أبيح لغيرهم..” ص 26.
على عكس دولة المدينة المنوَّرة، جاءت فيما بعد الحركات الإسلامية وأحزابها؛ إذ لم تكن إسلامية بالمعنى الحقيقي للكلمة بل كانت أحزابًا تستند إلى أفكار إسلامية.. ولم تكن تلك الأحزاب لأمة الإسلام بل كانت لأحزابها وعناصرهم، وهي في هذا لا تختلف عن أيّ حركة سياسية أخرى متدينة أو غير متدينة.
أكثر ما يركز المؤلف على قضية العادات أو الثقافات القادمة من عصور التخلف والاستبداد أو الرافدة من عوالم الشرق القديم وإلباسها لبوس الإسلام بإقحام بعض النصوص مع سوء تفسير وإخضاعها لتلك الثقافات.
يشير المؤلف في الفصل الرابع المعنون بـ: “العلاقات الاجتماعية والإسلام” إلى ظاهرة قديمة حديثة، وهي علاقة المسلم بالمرأة، فيراها قائمة على الاستعباد، إذ يتحكم الرجل أبًا وزوجًا وأخًا بها، بخصوصياتها، بسلوكها عمومًا، وبخروجها من البيت وعلاقتها بالآخرين، وبلباسها وقبل هذا وذاك بزواجها الذي هو حياتها كلها… إلخ. يردُّ المؤلف بعض ذلك إلى العصبية الجاهلية، مذكرًا بعادة دفن البنات أحياء.
في هذا السياق، يأتي المؤلف إلى جريمة القتل العمد المسماة بـ: “جريمة الشرف” المحمية بالقوانين في معظم البلاد العربية/ الإسلامية، وبتخفيف الحكم على الجاني. ويتساءل المؤلف كيف استقام للمشرِّع هنا أن يجمع في عبارة واحدة بين كلمتين متناقضتين، فكلمة “جريمة” كريهة آثمة، بينما الأخرى “الشرف” نقية سامية؟! إذًا ثمة خلل في أصل التفكير، خلل يأتي من افتراقه مع مدنية الحضارة المعاصرة، ووعيها الإنساني. إنه حقًا دون مستوى الوعي.
يسمي الكاتب العلاقة بين المسلمين والإسلام “علاقة مجاورة” لا علاقة تماه واندماج، فقد أخذ العرب، من جهة، شيئًا من الإسلام، وحافظوا على أخلاق القبيلة، من جهة ثانية، وتمثلوا كذلك ما وردهم من عادات شرقية مغرقة في القدم والتخلف.
في فصل مسألة الحدود الشرعية يوجز المؤلف التاريخ الأخير للحركة الجهادية وتجربتها الأفغانية ومحاولة تطبيقها، ويرى أن قادة هؤلاء، في أقصى درجات فهمهم، تراهم يفقهون في الأمور الدينية لا الحياتية أو السياسية، فأكثرهم فقهًا أو فهمًا بأصول الدين لا يستطيع أن يكون ندًا لتلك الشخصيات الإسلامية الأولى.. ويأتي في الشق الثاني من الفصل إلى الحدود الشرعية ليقول:
إن الإسلام -في نظر هؤلاء- هو تلك الحدود المحصورة في رجم الزانية وسوى ذلك من الحالات الاجتماعية التي يمكن تجاوزها بالموعظة الحسنة.. ولا تدخل في حسابات الدولة الحديثة العلوم الحديثة وأساليب التنمية وغيرها.
يعالج الكاتب في الفصل المعنون بـ: “حديث المدرسة والبيت” ظاهرة الجهاديين والعمليات الاستشهادية التي تبدأ بإعداد الأطفال خائفين من ذنوب لم يرتكبوها، فعند الله نار لم تعدّ للكافرين فحسب بل للمخطئين، وحاملي الذنوب مهما كانت صغيرة أو طفولية.. وهنا ينمو الطفل خائفًا دائم البحث عمّن يلوذ به، فيأتيه الفرج من رب العالمين ذاته الذي يدعوه، عبر شيوخ آخر الزمان، إلى جنَّاته وما فيها من متع، يقول الكاتب (وأنقل بإيجاز):
“صناعة الانتحاري، في العديد من المجتمعات الإسلامية، مسألة تشترك فيها الأسرة والمسجد والتلفزيون، فمن مئات الدعاة إلى المشايخ الذين يغلقون باب الرحمة والمغفرة في عيون الشباب.. وترى بعضهم يقولها صراحة: “إن الشباب الصغار إذا تعرفوا على كرم الله وعفوه تراخوا في عبادته”. وكأن الدين -يقول الكاتب- مجردُ طقوس وعبادات لا علاقات إنسانية بين بني البشر”.
وبعد؛ إنها أفكار نمت في أجواء الاستبداد، فدمرت ما استطاعت ولا خلاص منها ومن الاستبداد على السواء إلا بالحرية والديمقراطية والتعددية السياسية وقضاء عادل مستقل.
الكتاب صادر عن نون4 في تركيا/ غازي عينتاب 2017.
[sociallocker] [/sociallocker]