تموز/ يوليو 1952 من “فلوجة فلسطين” إلى القاهرة


حبيب عيسى

(1)

تولد الأحلام من رحم المآسي، وتنمو الحرية في رحم الزنازين، وينفتح الطريق إلى الأفق من عتمة الحصار، وتولد الشرارة من عنف الصدمة!

هكذا كانت نكبة الأمة عام 1948 شاملة الأمة بين المحيط والخليج.. حاول -ويحاول- البعض، في الداخل العربي، ومن الخارج، أن يحددهّا بجغرافية فلسطين العربية، أو في جزء منها، بهدف إخفاء حقيقتها، كمشكلة قومية عربية، تشويهًا لمضامينها، وإغلاقًا للطريق أمام الأمة لمواجهتها، في جغرافية العرب الواسعة، من قبل شعب الأمة العربية كله، لكن الحقائق التاريخية والموضوعية تفرض نفسها في النهاية، حتى على الواهمين، فعلى الرغم من كل تلك الصفقات، بين الخونة من العرب والصهاينة، لم ولن يتمكن أحد، كائنا من كان، من تغيير حقيقة مشكلة فلسطين، كأرض عربية محتلة، ولا من حقيقة أن لتلك المشكلة حلًا وحيدًا، صحيح هو تحرير تلك الأرض العربية المحتلة، وأن كل ما جرى، من (كامب ديفيد)، إلى (أوسلو)، إلى (وادي عربة)، إضافة إلى من سيلحق بهم، ابتداء من دعاة “السلام المنفرد”، وانتهاء بالذين يسوقوّن “للسلام العادل والشامل”، إذ كيف يمكن أن يكون هناك سلام، وكيف يمكن أن يكون عادلًا، أو شاملًا.. مع المحتل…؟

على أي حال، كل ذلك التزييف للصراع العربي مع الصهاينة سيذهب أدراج الرياح، على يد جيل عربي قادم، قادم حتمًا، جيل يحمل ممحاة وقلمًا، لتطهير الصفحة، وتظهيرها ناصعة البياض، ثم يسيل عليها الحبر، مظهرًا الحقائق الموضوعية؛ فيغدو الزيف مجرد ذكرى لمحنة.. مرت، وانقضت…!

(2)

قد يحتجّ البعض على هذا المدخل للحديث عن فجر يوم 23 يوليو/ تموز 1952 في كنانة العرب، فليكن! المجال هنا لا يتسع للدخول في سجالات حول ذلك، لكل رأيه الذي نحترم، أما أنا فأقول جازمًا إن ذلك الحدث التاريخي الذي وُلد فجر ذلك اليوم، في القاهرة، كان قد تشكل جنينًا في “فلوجة فلسطين” عام 1948، حيث كان نفر من الضباط والجنود، ضمن وحدة عسكرية من كنانة العرب، في حالة حصار شامل يطبق عليهم من الجهات الأربع، حيث تشارك قوى متداخلة في فرض ذلك الحصار عبر أنساق متتالية، ومتشابكة، كما يلي:

– النسق الأول للحصار: “أراغون”، و”هاجاناه”، وما سمي بعد ذلك “جيش الدفاع الإسرائيلي”.

– النسق الثاني للحصار: جيش الاحتلال البريطاني من جهة قناة السويس، ومن جهة فلسطين، يؤمن الحماية للنسق الأول.

– النسق الثالث للحصار: يديره السفير البريطاني من القاهرة، عن طريق بعض الأجهزة الفاسدة التي زودت الوحدة العسكرية المحاصرة بالأسلحة الفاسدة التي تفتك بمستخدميها، ولم يكن ذلك إلا مظهرًا واحدًا من مظاهر الفساد السائد.

– النسق الرابع للحصار: تشكل من الحكام المحدثين لكيانات “دول إقليمية”، تم ترسيم حدودها من خارج السياق التاريخي للأمة العربية، واعتداء على وجودها، وبالتزامن مع إعلان “كيان إسرائيل”، أولئك الحكام –الدمى- الذين أرسلوا جيوشهم إلى فلسطين بهدف وحيد، هو ترسيم حدود “دولة المستوطنات الصهيونية” في فلسطين، ذلك أن الواقع على الأرض كان: مستوطنات صهيونية متباعدة في وسط كثيف من القرى، والبلدات، والمدن المأهولة بعرب فلسطين، مع إضافة عنصر مهم، كان قد بدأ يتشكل، وهو تواجد مقاومة عربية من جميع أرجاء الوطن العربي، حيث تنادى المناضلون العرب للانخراط في جيش الإنقاذ العربي، وفي الكتائب الفدائية العربية، وكانت تلك الفصائل التي بدأت بالتوجه إلى فلسطين تنمو، ويتسع نطاق عملياتها!.

(3)

في ظل تلك الأوضاع، لم يكن بالإمكان إقامة “دولة إسرائيل”، إذ إن الدول -وهي أشخاص القانون الدولي- لا يمكن أن تقوم إلا ضمن ترسيم حدود مع الجوار بين طرفين، أو بين أطراف ذات سيادة بمفهوم القانون الدولي؛ لهذا فإن الحل الوحيد لهذا المأزق الاستعماري كان بتقدم جيوش الدول التي سميت عربية “ذات السيادة” إلى فلسطين، لتحقيق مهمتين في وقت واحد: المهمة الأولى كانت إيقاف عمليات الفداء العربي التي بدأت تشكل خطرًا جسيمًا، ليس على المستوطنات الصهيونية وحسب، وإنما على سلطات الدول الفعلية التي أقيمت على الأرض العربية المجاورة لفلسطين، تحت ادعاء كاذب بأن جيوش الدول “العربية” ستحرر فلسطين؛ وبالتالي لا حاجة إلى كتائب المقاومة العربية، فليعد كل إلى مكانه. والمهمة الثانية لتلك الجيوش، كانت ترسيم حدود الهدنة مع المستوطنات الصهيونية؛ فتقوم “دولة إسرائيل” داخلها، وفي الوقت ذاته تقوم تلك الجيوش بتسهيل تهجير عرب فلسطين من القرى، والبلدات، والمدن العربية التي تفصل بين المستوطنات الصهيونية؛ فتتحول تلك المستوطنات إلى “دولة” تحيط بها دول “ذات سيادة” لا تتخطى حدود الهدنة، وإذا تخطت “إسرائيل” تلك الحدود؛ فإن أقصى ما تطالب به هو العودة إليها، وإذا تكرمت وعادت؛ فإن ذلك يعدّ -بمفهوم تلك السلطات- “نصرًا مبينًا”، لهذا قلنا، ونعيد إن “دولة إسرائيل” قامت بوعد بريطاني، ومؤامرة دولية، لكن قبل ذلك، ومعه، وبعده، قامت واستمرت بتنفيذ وحماية حكام “الدول الإقليمية” في الوطن العربي!.

(4)

هذا حديث، ذو شجون، ما يزال مفتوحًا، وسيبقى مفتوحًا، إلى أن تحل مشكلة فلسطين على يد جيل عربي، عارف للحقائق، ومقتدر على الفعل؛ لأننا، وفق المصطلح القانوني، أمام “جريمة مستمرة”، أشرنا هنا فقط إلى ما يتعلق منها بموضوع البحث، وأثره على تلك “الوحدة العسكرية”، من كنانة العرب التي وجدت نفسها محاصرة في “فلوجة فلسطين” بكل تلك القوى المتشابكة، والتي كان عليها أن تعود إلى مصر، بعد ترسيم حدود الهدنة، عبر أنساق الحصار الأربعة التي أشرنا إليها، وكان ذلك كله استفزازًا لمشاعر ضباطها وأفرادها لا يطاق، وتحديًا لكرامة أمة، لا يمكن احتماله، فبدأ جنين التمرد ينمو، وينتقل بتسارع إلى أوسع القطاعات داخل جيش الكنانة!.

لقد كان المرور القسري، لتلك الوحدة العسكرية العائدة من الحصار، على أنساق الحصار، بدءًا من “جيش الدفاع الصهيوني”، إلى الجيش البريطاني على ضفتي القناة، إلى مؤسسات الفساد، والتبعية، التي تركتهم للحصار، بأسلحة فاسدة، إلى ما تكشف من علاقات سرية بين سلطات الدول الفعلية القائمة في الوطن العربي، وبين الصهاينة، وكيف قايض حكامُها وجودَهم على كراسي الحكم بالتخلي عن فلسطين. ذلك الواقع المر، والمتداخل، بكل دلالاته، كان الدافع الحاسم الذي عزز إرادة التغيير لدى العائدين من الحصار إلى الحصار، وإذا كان الصمود هو شعار مواجهة الحصار في “فلوجة فلسطين” فإن الحركة والاقتحام باتجاه الحرية، كانت شعار مواجهة الحصار في كنانة العرب، فكان فجر 23 تموز/ يوليو 1952.

هنا، لا بدّ من أن نقف، ونحن نحاول استكشاف المؤثرات التي صاغت ذلك الحدث التاريخي فجر 23 تموز/ يوليو 1952، لنحدد بوضوح، لا لبس فيه، أن ما تقدم ذكره، كان جانبًا مهمّا من المشهد، لكنه لم يكن المشهد كاملًا، ذلك، وهذا في منتهى الأهمية، لو كان الأمر يقتصر على ما أوردناه، لكانت النتيجة مجرد تمرد بانقلاب عسكري، يتبعه صراع بين العسكر على السلطة، كما حدث في سورية مثلًا بين أعوام 1949 و1953، حيث توفرت المؤثرات العامة التي ذكرناها ذاتها، والتي كانت الدافع، أو المبرر للانقلابات التي حدثت.

(5)

في كنانة العرب توفر جانب آخر من المشهد، كان مكملًا ومتفاعلًا إلى أقصى حد مع الجانب الأول، وتمثل ذلك الجانب المهم في الظرف الذاتي المتمثل بشخص جمال عبد الناصر الذي قبض على اللحظة التاريخية، وأيضًا في الظروف الموضوعية التي كانت سائدة في كنانة العرب، لحظة عودة الوحدة العسكرية من “فلوجة فلسطين”، والتي شكلت بجانبها السلبي استفزازًا وتحديًا، وشكلت بجانبها الإيجابي، حاضنة ورافعة ومنصة للحدث المنتظر، ويمكن الإشارة، باختصار شديد إلى الركائز المهمّة في هذا الجانب من المشهد، الذي كان سائدًا في مصر، خلال الفترة من 1948 إلى فجر 23 تموز/ يوليو 1952.

– أولًا، وبدون عناء، نجد أن النسيج الاجتماعي السائد في مصر كان متماسكًا إلى حد كبير، وأن محاولات اللعب على الفتن الطائفية والمناطقية لم تكن تجد لها مكانًا مؤثرًا في مجتمع الكنانة العربي!

– ثانيًا، إن وجود جيش الاحتلال البريطاني، بشكل مباشر، في منطقة قناة السويس، وتصرف السفير البريطاني في مصر كمندوب سامي، وكحاكم عسكري لمصر، وفساد طبقة الباشوات السياسية، وفضائح الملك، وصفقات الفساد، كل أولئك شكل عامل استفزاز للرأي العام، فبات ينشد التغيير ويحتضن دعاته!

– ثالثًا، الانعكاس الذي شكله الحدث الفلسطيني على الداخل المصري كان حادًا، خاصة بعد افتضاح أمر صفقة السلاح الفاسدة، وحصار الوحدة العسكرية للبلاد في فلوجة فلسطين، وبعد أن أتضح الدور المشبوه للأنظمة التي أرسلت إلى فلسطين جيوشًا بأوامر مشددة لعدم إطلاق النار على العصابات الصهيونية “ماكو أوامر”، أو بأسلحة فاسدة غير صالحة للقتال!

– رابعًا، تلك العوامل الثلاثة السابقة، أدت إلى تداعي قوى وطنية، وشخصيات وطنية، وقومية، ودينية في مصر إلى تشكيل ما عرف بمجموعات فدائية لقتال المحتل البريطاني في قناة السويس، ومجموعات فدائية أخرى للتوجه إلى فلسطين، لتلتقي مع المجموعات الفدائية العربية الأخرى، ومع جيش الإنقاذ العربي، لكن الأنظمة العميلة قطعت الطريق، وادعت أنها أرسلت الجيوش للقيام بالمهمة. ما حصل في مصر مختلف، إذ إن كتائب الفدائيين المصريين تلك لم تحل نفسها، بعد نكبة 1948، وإنما توجهت إلى منطقة قناة السويس لمقارعة جيش الاحتلال البريطاني، وقد شكّل هذا بحد ذاته ساحة مشتركة للنضال المشترك بين الضباط الأحرار، وبين الفدائيين؛ فتعزز إدراك حقيقة الصراع الدائر، وتعزز الإدراك، بوحدة المصير القومي العربي، وتكشفت خيوط الترابط بين قوى الهيمنة الدولية التي كانت تحت القيادة البريطانية، وبين المشروع الصهيوني، وكذلك الترابط بين هذا كله، وبين الأنظمة المستبدة، والفاسدة؛ وبالتالي الترابط الذي لا بدّ منه بين المناضلين من أجل النهوض، والتنوير، والتحرير، في الوطن العربي، هنا قال جمال عبد الناصر مقولته الشهيرة: “أنا لم أخلق القومية العربية هي التي…”.

(6)

إذن، في ظل تلك الأجواء المضطربة والمتحفزة، عاد الضباط المحاصرين، من “فلوجة فلسطين”، “ضباطًا أحرارًا”، وكانت الظروف الموضوعية في مصر العربية -السلبية منها والإيجابية- مهيأةً ومتحفزةً، لحل يُخرج البلاد من أزماتها المستعصية، فالأوضاع السلبية المتمثلة في الفساد، والهيمنة البريطانية على الحكم، والوجود العسكري البريطاني المستفز للمشاعر، خاصة بعد أحداث فلسطين، وعجز باشوات السياسة في الأحزاب، والجماعات حتى الشعبوية منها، عن تحقيق طموحات الجماهير التي أعطتها كل ما تملك، دون أن تتلقى أي مردود، هذا كله استدعى الحل من خارج تلك الفئات، من الجيش. أما على الجانب الآخر من المشهد الداخلي في مصر، فقد كانت المجموعات الفدائية التي توجهت إلى منطقة القناة، تشكل إرهاصات مهمّة لما يجب أن يكون عليه الحل لمشكلات مصر، فكل شيء يجب أن يبدأ بالتخلص من الاحتلال البريطاني، وهكذا تم التلاحم بين الضباط الأحرار، وبين الفدائيين، تدريبًا، وتسليحًا، وتنسيقًا، وأكمل الضباط الأحرار رسمَ الصورة بالاتصال مع جميع القوى والأحزاب السياسية على تنوعها، يحاورون، ويناقشون، ويستمعون، ويؤثرون، ويتأثرون، وفي الوقت ذاته ينتشر تنظيم “الضباط الأحرار” داخل الجيش، فالمؤسسة العسكرية، هي المؤسسة المرشحة، لإحداث التغيير المطلوب، في مثل تلك الظروف. وهكذا، فإن أربع سنوات، من الجهد المضني، بعد 1948 كانت كافية ليظهر إلى النور ذلك الحدث العظيم، في فجر 23 تموز/ يوليو 1952!

(7)

هناك عامل آخر، شديد الأهمية، لا يمكن الحديث عن حدث 23 تموز/ يوليو، دون التطرق إليه، وهو أن تشكيلة “الضباط الأحرار” بالرغم من تجانسها، من حيث المبدأ، حول التخلص من النظام الفاسد، فإن التنوع والتباين، داخل “الضباط الأحرار”، كان واضحًا، من حيث الأفكار والعقائد والرؤى، فمنهم من كان قريبًا من “الإخوان المسلمين”، ومنهم من كان قريبًا من الشيوعيين، ومنهم من كان قريبًا من الليبراليين، ومنهم من كان قريبًا من الحزب الوطني، ومنهم من كان بلا توجه سياسي محدد، لكنهم توحدوا جميعًا على ضرورة إصلاح النظام السياسي في مصر. هنا برز جمال عبد الناصر كعنصر مركزي ومحوري بين الضباط الأحرار؛ فتركوا له القرار في الظروف الصعبة، واحتك بجميع القوى والحركات والأحزاب السياسية في مصر، واستمع، وناقش جميع الأفكار المطروحة على الساحة، واختار طريقًا جديدًا يقترب من سائر الأفكار المطروحة، في نقاط معينة، ويبتعد عنها في أخرى، لكنه ليس تابعًا لأي منها بالمطلق، وليس مناقضًا لها بالمطلق، قد يقول البعض هذا خط انتقائي لا يصل إلى نتائج استراتيجية في نهاية المطاف، وإنه طريق محفوف بالمخاطر، كل هذا صحيح، لكن الصحيح أيضًا، أن ذلك كان المتاح الوحيد للعمل الذي لا يحتمل انتظار بلورة مشروع فكري مغاير، ثم من خلال العمل يتم تأصيل الخط الفكري، وهذه مسألة حساسة، ودقيقة، إذا لم تُحسم في الوقت المناسب؛ فإن كل شيء مهدد بالضياع. على أي حال، هذا موضوع ذو شجون، أيضًا، لا يتسع له المجال هنا، فنحن الآن أمام الحدث 23 تموز/ يوليو، وذلك النهج هو الذي صاغ التميز لذلك الحدث التاريخي، وحوّله من مجرد انقلاب عسكري على السلطة، إلى مشروع ثورة، ثم إلى ثورة محكومة بظروف النشأة، وبالتحديات المتوقعة، وغير المتوقعة، فكان لها إيجابياتها التي لا ينكرها أحد، وكان لها سلبياتها غير المنكورة من أحد؛ فأصابت وأخطأت، ونحن هنا لا نتحدث عن “كاريزما” جمال عبد الناصر كزعيم جماهيري، فهذا تبين فيما بعد، وإنما نتحدث تحديدًا عن الطريق إلى 23 تموز/ يوليو 1952، وعن خيارات جمال عبد الناصر، في ذلك الظرف، تحديدًا، وكيف تمكن أن يشق الطريق إلى الثورة، في وسط من الأفكار والعقائد المتناقضة والمتضاربة أحيانًا إلى حد الصراع، وكيف تمكن من العبور في خضم من القوى والأحزاب القوية والمتصارعة، دون أن يتمكن أحد من إلحاقه بما يريد، ثم كيف تحرك في حقول متداخلة من الألغام، ليمنح هذا الخط المتجه إلى الثورة هويته ولونه الخاص، من 1952 إلى 1954 إلى 1956 ثم إلى 1958، حيث تجاوز الحدث حدود دولة مصر الإقليمية، ليتحول إلى حدث قومي عربي، من المحيط إلى الخليج، ولتسقط كافة التحفظات، بعد ذلك، حيث بات جمال عبد الناصر قائدًا لحركة التحرر العربي!.

(8)

قد يقول البعض: لماذا توقفت في الحديث عند 1958 …؟ لماذا لم تكمل، وتقول لنا لماذا حصل ما حصل، يوم 28 أيلول/ سبتمبر 1961، من انفصال الإقليم الشمالي، وما ترتب عليه في يوم 5 حزيران/ يونيو 1967؟، وقد يتابع البعض الآخر متحديًا: أنتم القوميون دائمًا هكذا، تتحدثون عمّا يعجبكم، وتتجاهلون هزائمكم، أو في أحسن الأحوال تحاولون تبريرها؛ في الجواب عن ذلك أقول: أولًا إن تلك التساؤلات مشروعة، أيًا كانت الدوافع إليها. وثانيًا، إننا لا نتهرب من الإجابة عن أي تساؤل، لكن الحديث يقتصر، اليوم، على مناسبة 23 تموز/ يوليو، ومع ذلك نقول، باختصار شديد، إن الآفاق التي فتحت أمام الشعب العربي بعد 23 تموز/ يوليو، باتت من الاتساع والشمول، بحيث يكون من الظلم أن تلقي الأمة على كاهل شخص واحد، أو على كاهل جماعة محددة مسؤولية تحقيق أهداف لا يمكن تحقيقها إلا بجهود الأمة كلها؛ وبالتالي فإن وجهة الأسئلة يجب أن تتغير، لتُوَجه إلى القوى الحية في الأمة: لماذا خذلتم مشروع الثورة العربية؟ دعونا، بعد كل هذا الذي جرى، أن نتداعى جميعًا إلى كلمة سواء، وأن نكف عن المناكفة والاتهامات، فجميع فصائل النهوض والتنوير، في الوطن العربي، هي الآن في موقع واحد تتساوى بالفشل؛ وبالتالي فإن الأسئلة يجب أن توجه إلى الداخل بمعنى المراجعة، والتصويب، وإذا كان السؤال لماذا لم يفعل جمال عبد الناصر كذا… وكذا…؟ أليس الأجدى، بعد مرور 47 عامًا على غيابه، أن نسأل: لماذا لم نفعل نحن، ولماذا لم يفعل أي أحد غيرنا…؟ حتى نجد أنفسنا جميعًا في هذا العار!

(9)

نحن هنا، اليوم، في استحضار ذكرى فجر ذلك اليوم 23 تموز/ يوليو 1952، كيف؟ ولماذا؟ وبمن؟ وفي ظل أي ظروف؟ كان ذلك الحدث التاريخي، لاستخلاص العبر من التجربة، ودراسة الظروف الراهنة، للتعامل معها، كما يجب، لا أكثر من ذلك ولا أقل. وإذا كان المجال هنا لا يسمح بالتوسع، في بحث ما نتج عن ذلك الحدث التاريخي؛ فإننا نشير فقط إلى بعض العناوين البارزة التي رسخت في الذاكرة العربية، أحزانًا وأفراحًا انتصارات وهزائم.. لقد كُتب الكثير، وقيل الكثير، وسُيكتب، وسُيقال الكثير أيضًا عن الأثر الذي تركه ذلك الحدث في التاريخ العربي المعاصر؛ ومن ثم الأثر الذي تركه الرجال بقيادة جمال عبد الناصر، من صعيد مصر، إلى “فلوجة فلسطين”، إلى قناة السويس، ثم إلى كل مصر، ومنها إلى الوطن العربي، وإلى الجمهورية العربية المتحدة، وما تلاها من كوارث: الانفصال، ثم نكسة 67، وغياب جمال عبد الناصر، ثم توقف مسيرة النهوض، والشروع بمسيرة النكوص، وعكس التوجه تمامًا، من المواجهة والتحرير، إلى “كامب ديفيد”، ثم إلى “أوسلو”، ثم إلى “وادي عربة”. وما زالت مسيرة النكوص تتجه إلى “كامبات” جديدة، وسيبقى الأمر على تلك الحال، إلى أن يقرر جيل عربي “ما”، أن يرسم خطًا على الأرض، وخطًا في العقل: أن كفى؛ فيستأنف ذلك الجيل مسيرة النهوض، ويستلم الراية لينطلق باتجاه مستقبل عربي مختلف تمامًا عمّا نحن فيه، مستفيدًا من الأخطاء والخطايا فيتجنبها!

(10)

كنت، وما زلت، وسأبقى أحلم بأن أحتفل بذكرى فجر يوم 23 تموز/ يوليو 1952 بطريقة مختلفة تمامًا، عمّا قلته حتى الآن. كنت أتمنى أن أحتفل، كما تحتفل كل شعوب الأرض، بمناسباتها العزيزة عليها. كنت أتمنى أن أرسل إلى أحد الأحبة في مصر باقة من ورد الياسمين الدمشقي، ليضعها على ضريح جمال عبد الناصر، وأخرى على ضريح عصمت سيف الدولة، وأخرى، وأخرى، على أضرحة الشهداء، ثم نقول شعرًا، ونعزف موسيقى، نغني، ونطلق المفرقعات المضيئة في سماء الوطن العربي. لكنهم -الأعداء- لم يتركوا لنا مساحات للفرح. المهم الآن أن نُدرك أنّ علينا نحن أن نوجد تلك المساحات، ومهما كانت الصعاب؛ فسيبقى الحلم مشرعًا، ومشروعًا، بأننا سنحتفل يومًا “ما”، وإذا تعذر علينا ذلك؛ فدعونا نورّث الحلم للأجيال العربية القادمة.




المصدر