ثقبٌ أبيض


شيخة حليوى

منذ انتقلتُ للعيش في هذا البيت، وأنا أرتعدُ من فكرة أن يستسلم صاحبه، ذات صباح، لإلحاح زوجته المتواصل، ويسدّ ذاك الثقب، لن يصمدَ كثيرًا وهي ما تنفكّ تذكّرهُ أنّ من أهمّ وظائف الرجل في المنزل سدّ الثقوب.

أرتعد من حائط لا ثقب فيه، من عالم بجدران ملساء متساوية.

كلّ صباح أتفحّص أشيائي الجامدة؛ كنبة سوداء ضخمة أمضي نهاري أعارك تجويفها، مرآة مستديرة على يميني تُربك سنواتي، وثقبًا عميقًا في الحائط، أسرق منها مجتمعة شظايا حياة قديمة وأخرى مستمرّة على شكل ومضات.

أتذكّر جيّدًا أنّه كان لي بيتٌ صغير، وبمواجهة السرير الّذي أنامُ عليه أنا وطفلتي في غرفة النوم، كان ثقبٌ واسع. أتذكّر –أيضًا- أنّهُ جاء نتيجة محاولات لتعليق صورة كبيرة تجمعني أنا وهي، وكان المسمار يسقط وتسقط معه الصورة. أكثر من مرّة تكسّر زجاج الإطار وأكثر من مرّة استبدلتهُ بآخر، ثمّ انتهيتُ إلى تثبيت الصّورة بحاملٍ خشبيّ على منضدة بجانب السّرير.

استعنتُ بأخي (غاب اسمهُ عنّي) ليرمّم جدران البيت ويُجدّد طلاءها، وكنتُ أنبّههُ ألاّ يقرب ذاك الثقب ويتركهُ على حالهِ، يضحكُ ويردّ:

الناسُ جميعهم يسدّون الثقوب، وأنت تحرسينها كآخر نفقٍ للنجاة.

لم أعرف أنّها فعلًا كذلك حتّى قالها أخي، هي نفقُ نجاة وحيد وآخر مسارب للهروب. صرتُ كلّما أطبقت الدنيا عليّ وخشيتُ أن تبتلعني الأرض، أسحبُ طفلتي النائمة وأتسلّل إليهِ بخفّة وسهولة، كلّ لجوء إليه كانَ يحميني وإياها من حربٍ وشيكة ويدٍ ثقيلة عمياء. نخرجُ منه وقد هدأ الكون.

في مكانٍ آخر عشتُ فيه، أظنّه مستشفى، كنتُ بين صحوٍ وآخر، أبحثُ عن نفق نجاة على شكل ثقبٍ في الحائط، إلى أن وجدتهُ في ممرّ طويل يصلُ بين غرف المرضى. حينما اختفى ذات يوم وراء لافتة كبيرة تحملُ تعليماتٍ لزوّار المستشفى (من بينها تحذيرٌ بعدم التدخّل في شؤون المرضى) استعنتُ بثقبٍ آخر في رأسي. كان موجودًا دائمًا، وكنتُ أتجاهلهُ وأتجنّبهُ، فالتسلّل إليه يكلّفني غيابًا تامًّا عن الوجود، يصيرُ رحلة مُرعبة في ممرّات ضيّقة وغابات مُظلمة وأيادٍ سوداء تسحبني نحو الهاوية. لم أكن أخرجُ منهُ إلاّ وقد انتزع جزءًا منّي، لا أنجحُ أبدًا في استعادته، يظلُّ هناك، يموتُ ويتعفّن.

منذ وصلتُ إلى هذا البيت، قبل عامٍ أو عاميْن أو أكثر، وأنا اعيشُ بآخر جزء منّي، ولن أغامر بهِ قبل أن أعود إلى طفلتي. أرتعدُ من فكرة أن تظلّ هناكَ وحيدة، أن يموتَ الجزء الذي يحملني إليها.

الثقب والجزء أرجو أن يصمدا.

لماذا يخشى الناس ثقوب الحائط؟ لماذا تلحُّ صاحبة المنزل على زوجها أن يسدّه؟ قلتُ لها هذا الصّباح إنّ طفلتي تنتظرني داخلهُ، فردّت ببرود دون أن تبعد نظرها عن شاشة التلفزيون: داخلهُ؟ أرجو أن تخرجَ منهُ قريبًا، فهي لم تدفع لي مستحقّات الاعتناء بكِ منذ ثلاثة أشهر.

لا تذكر اسمها أبدًا ولا تقول سوى هي أو ابنتكِ، وأنا اتذكّر أنّني منحتها اسمًا جميلًا فيه موسيقا وشجن.

لم تخرج مرّة وحدها من هناك، فأنا أحملها وهي نائمة وأخرج بها وهي نائمة أيضًا، لن تعرف طريقًا للعودة. عليّ أن ألحق بها هناك قبل أن تصحو وتربكها الوحدة، ففي صباح ما سيرضخ الزوج لاختبار الأدوار الرجوليّة في البيت، وسيسد الثقب، وستكون فرصتي الأخيرة، الوحيدة.

بآخر جزء منّي استجمعت عظامي الهشّة وذاكرة قديمة، وتجاوزتُ العجوز التي ترصدني من المرآة ساعات طويلة، تخلّصت من الكنبة السّوداء التي ظلّت متّخذة شكل مؤخّرتي وبخفّة كنتُ داخل الثقب الأبيض.

غمرني الضوء وعادت التفاصيل القديمة واضحة ومرتّبة: اسمي، عمري، حزني، فرحي، خوفي، طفلتي الّتي صارت أمّا، ما اسمها؟

سأظفر به حالًا، سأناديها به. هل أكون قد نسيتهُ في هروب قديم؟

مسمارٌ أسود عملاق كان يلاحقني سادًّا الثقب وطريق العودة.




المصدر