مسارات سورية ومحاور من ورق


جمال الشوفي

لم تكد تنتهي جولات أستانا وما سُمي “خفض التوتر” كنتيجة له، حتى بدأ مسار جديد في المسألة السورية، مسار الجنوب الذي أريد له أن يكون مستقلًا عن مسار أستانا.

مسار أستانا الذي قادته روسيا، بشراكة وضمانة خصمَين متناقضين أيديولوجيًا ومصلحيًا في سورية هما إيران وتركيا، وبمشاركة أميركية شبه خجولة، وأردنية تحت بند الرقابة، يضمن مصالح الدول الثلاث (الضامنة) في الشمال السوري، وعلى رأسها روسيا، ولسان حال التحليل السياسي أن روسيا تُسوّق المسألة السورية، لاستبدال مقررات جنيف ومرجعياتها الأممية بوثائق أستانا وما نتج عنها من مناطق “خفض التوتر” واتفاق هدنة على جبهة الشمال السوري، ومع هذا لم يتوقف جنيف على الرغم من “فشله” الثامن، وكلمة الفشل لا معنى سياسيًا لها سوى أن مسار الحل السوري هو أشبه بـ “المطيطة”، بين جذب ونبذ وتسارع على كسبٍ هنا وتمرير موقع هناك.

لا يختلف مسار الجنوب اليوم عن سابقه في أستانا، سوى أن مقرّه عمان، وبمشاركة فعلية لأميركا وروسيا مستثنى منها إيران وتركيا! إذًا ما معنى تسميته بالمسار؟ هي المحاور المتشكلة في سورية، حسب توزيعات وتنازع مصالح الدول الكبرى في أرض سورية وعليها، وفي الجنوب روسيا تشارك أميركا والأردن و”إسرائيل” أيضًا. وحتى لا نقع بشرك التحليل الملتبس في أن الجنوب سيأخذ مكان جنيف، أو أنّ أستانا والجنوب هما مساران مختلفان في سورية، ويصعب عندها تمييزُ نوعية الحل المزمع بسورية، ومعرفةُ أي المسارات سنتبع، لنحدد من حيث المبدأ موضع قدمنا في أي محور ولأي محور بتنا ننتمي. فمحور أستانا هو مرحلة أولى في تثبيت الجبهة الشمالية السورية ما فوق دمشق، بينما محور الجنوب لما دون دمشق، فهل ستكون دمشق نقطة توازنه أم ستكون لحظة صراعه الكبرى؟

منذ خطة مؤسسة (راند) الأميركية في الحل السوري (الخطة التي ترجمها ونشرها مركز “حرمون” للدراسات المعاصرة، وقال فيها ميشيل كيلو في مقالة له: “صديقتنا أميركيا ضحكت علينا”)، والمسارات السورية تأخذ أبعادًا متفارقة في السياسة الدولية، فمرة هي حل سياسي مزمع (سوري-سوري)، تُدعى كل الفاعليات السورية لحضوره في جنيف وتقرير مصيره، ومرة هي تنازع عسكري للهيمنة والسيطرة على مواقع متباينة سورية، واليوم هي ضرورة الحفاظ على مصالح “إسرائيل” في سورية، حسبما صرح لافروف وزير خارجية روسيا، حكومة الانتداب المبطنة، والمشاركة الرئيسية في وضع محاور أستانا والجنوب. فإن كان للسياسات الدولية مطامعها في سورية، وهذه فرضية أولى لا تنفي تباين هذه المصالح بين محاور الدول الإقليمية والدولية، وبالتالي مساراتها المُعلنة منها والمستورة. أليس الحري بنا أن نتساءل نحن -السوريين- ما هو المحور الرئيس لنا في كم التعقيد هذا، وأين دور السياسة الممكن في التعامل مع مقتضيات الثورة وتناقضات الدول حولها؟

في المشهد السوري المعارض ثمة محاور تشكّلت، ويبدو أنها تمترست خلفها:

محور الحل السياسي الموهوم الذي تتغنى به بعض “قوى المعارضة الوطنية الشريفة الداخلية” في حل “ديمقراطي – علماني – مدني”، والتي باتت مشاركة بفاعلية في الحل السياسي المزعوم في جنيف، عبر الهيئة العليا للتفاوض، وهي التي رفضت في أوائل عام 2013 أن يكون الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة ممثلًا وحيدًا للشعب السوري في الجامعة العربية، مطالبة بحقها السياسي في التمثيل والقيادة، وما إن دُعيت إلى مؤتمر الرياض حتى شاركت فيه بفاعلية، وهي إلى اليوم تنضح من خيالها السياسي بقدرتها الفذة على التفاوض السياسي، بينما النظام ومن خلفه روسيا يتمسك بمقولة الحل السياسي لفظيًا، ويقضم الأرض قطعة قطعة عسكريًا، ويُثبّت هدنة هنا، ويُهجّر مدينة هناك في عملية ممنهجة ومنظمة، لا بصورة موهومة عن الحل تفترض “خبرة” و”حنكة” صورة السياسي عن نفسه الذي لا يُدرك من السياسة سوى مقولة “الرأي”، دون أي أدوات بالفعل والعمل! في مقابل الطرف الآخر المُدرك ما يريد جيدًا.

محور المنصات المدنية والإفراط المتعدد الجوانب في المؤتمرات الديمقراطية والعَلمانية والإثنية.. متخذين من مقولات جنيف، بتخصيص نسبة 30 بالمئة منها، في هيئة الحكم الانتقالي، ذريعة عمل نفعية للوصول الموهوم إلى سورية الدولة “العَلمانية المدنية”، في شبهة مقولة فكرية فضفاضة تحتمل التأويل والاستثمار والنفعية إلى أبعد نقطة فيها.

محور ائتلاف قوى المعارضة والثورة، الغائب الفعلي عن ساحة السياسة والمشهد الثوري، المنغلق على صراعاته الداخلية بين “دمقرطة” و”أسلمة”، والذي أفقدته سلال دي ميستورا الأربعة بوصلة الثورة وفحوى تشكّلها، خاصة أن الثورة هي فعل هدم أولًا، لا كسب للسلطة وحسب، فوق مستوى معاناة الشعب والبشر كما عبر عنها برهان غليون: “المعاناة غير المسبوقة واللاإنسانية التي يعيشها السوريون، ومن ورائهم العرب الذين ينظرون إليهم بخوف وهلع اليوم، تبيّن أن الثورات لا تحمل، في رحمها، نظامًا بديلًا جاهزًا، أو مشروع بناء جنينيًا واضحًا، إنما تشكل قوة هدمٍ للنظم القديمة”. وهو المنوط به العمل السياسي بكثافة على محاور التناقضات الدولية، في موازاة العمل المؤسساتي والإعلامي الموحد للبحث في تماسك الداخل السوري، وأيضًا التوجه الفعلي لتناسق الأدوار المتناغم بين سياسي، وتفاوضي عسكري، لا الانجرار خلف مقولات العسكر وحدها ومواقع تمسكهم الضيقة برقعة من الأرض منعزلين عن غيرهم، فهل تكفي البيانات والاستنكارات والخطابات الرنانة الموجهة للبطرك وغيره في كسب رأي عام إعلام؟

يقول ميشيل فوكو: “لا وجود للسلطة إلا بالممارسة”، فحين تغيب السلطة كممارسة سياسية، لا تغيب السياسة فحسب بل تغيب معها الدولة أيضًا، ولا يبقى سوى الصراع على السلطة المحض دون الفعل السياسي؛ ما يجعل الصراع بذاته ينتقل من ساحة العمل بالسياسة وأدواتها إلى ساحة الكسب بنفعيتها وبغاياتها التي تتجاوزها وسائل تحقيقها؛ فيصبح كل شيء حينئذ مُبررًا، ويصبح العنف وما يحمله من ويلات هو خلاصة المشهد وحاضره اليوم. وعندها يصبح الحديث عن محاور سياسية بلا فعل الأرض وتماسكه وتناغمه من جانب، والعمل على تناقضات السياسات الدولية سواء تلك الروسية الإيرانية، أو الروسية والأميركية، أو التناقضات الإقليمية العامة في جانب آخر، هي مجرد محاور من ورق لا معنى ولا قيمة فعلية لها، في مقابل مسارات سياسية فعلية ترسم المسألة السورية، وفق مقولة السياسة ككثافة اقتصادية وبالتالي مصلحية، على سياسي الدول والمشتغلين بها العمل بها وإلا فليلزموا حدائق بيوتهم.

لن تقف المسارات المتشكلة في سورية عند حد أستانا أو الجنوب، فها هو مسار جديد يُكشّر عن أنيابه في عرسال والقلمون الغربي، ومسار آخر في البادية الشرقية، ومحاور المعارضة السورية تبحث، بشكل “حثيث” و”مضن”، في تغيير القيادات وأولية “الديمقراطية” و”العلمانية” و”المدنية” على الدولة، و”الدولة” المنشودة تتقاذفها مصالح الأمم وتغول العنف إلى ما لانهاية، وتتنازعها “الأسلمة” و”الدمقرطة” ورمي التهم الجزاف في كل اتجاه، في تبرئة للذات فاضحة بدل جلدها وتعنيفها ونقدها والعمل الفعلي في معاناة البشر ومظالمهم بالضرورة.




المصدر