هموم صديقي الياباني


إبراهيم صموئيل

أذهلني جواب صديقي الياباني، حين رأيته حزينًا، مهمومًا، كما لو كان يعاني من مشكلة مستعصية، فسألته عمَّا يحزنه ويُقلقه، فأجابني بما يشبه الاعتراف والبوح: لا شيء سوى أن موعد عودتي إلى اليابان قد اقترب!

صحيح أن صاحبي الياباني قد أَلِفَ العيش في البلدان العربية، بعد مجيئه إلى دمشق للدراسة، حيث تعرَّفتُ إليه، وشرعنا في تقوية لغته، وقراءة بعض الأعمال الأدبية والفنيّة والفكرية، ومشاهدة عروض مسرحيّة وسينمائيّة، والقيام برحلات إلى مدن سوريّة، والسهر الممتدّ مع أصدقاء في البلد، والقيام بجولات في الأسواق الشعبيّة الدمشقيّة، حتى بات شاميًّا خالصًا، لا يجيد الفصحى فحسب، بل يتقن العاميّة وحركات الجسد المرافقة لها أيضًا!

هذا كلّه صحيح، بيد أن الغريب المثير للتساؤل أن تُداخله الكآبةُ وينتابه الحزنُ ويستولي عليه الهمُّ، لا جرَّاء عزمه على مغادرة بلده، بل بسبب حلول موعد عودته إليه! أليس عجيبًا أن يكون صديقي على حاله هذا؟ أيًّا يكن، فقد لاحظتُ صدقَ حزنه، وحقيقة همومه التي تشغل باله، حين راحت ذكريات السنوات العشر -التي قضى معظمها في دمشق، وبعضها في بيروت وعمّان- تتوالى في حديثـه عنها، كما لو كان يُودّعها، فأصغيتُ إليه، آملًا أن يفضفض عن كربته.

وفيما طفق يحكي ويبوح عن أجمل ما في تلك السنوات، وجدتني أتساءل في سرّي: إذا كان صديقي قد استولى عليه الحزن، وقَلِقَ ذهنُه واكتأب من دنوّ موعد أوبته إلى بلاده، وبلادُه -كما هو معروف- لا تعاني الاستبداد والتَّعسف، ولا ترزح تحت نير الفساد والتخلّف، ولا تتحكَّم في حياتها عصابةُ عائلةٍ بعينها، ولا تُقاد بقانون الطوارئ وأمزجة المخابرات، ولا يرنو ناسُها إلى ألف باء الكرامة والعدالة وحقوق الإنسان… إذا كان ذلك كذلك، فما عسى أن يكون عليه السوريّون؟

السوريّون الذين رزحوا في بلدهم -لسنوات طويلة قبل الثورة- تحت كوابيس الترويع والقتل والاعتقال والنهب والخطف والاغتصاب والمهانة والتغييب والتجويع من قِبَلِ عصابات آل الأسد؛ والسوريّون الذين لاقوا -بعد قيام الثورة- أضعافًا مضاعفة من هذه الأهوال التي دفعت بهم قسرًا وغصبًا إلى الخروج من بلدهم واللجوء إلى مختلف أصقاع العالم؟

وما عساها مشاعر مئات الآلاف -أو الملايين- من السوريين، بعد انقضاء سنوات عديدة على اقتلاعهم وتهجيرهم، وبعد إقامتهم وعيشهم في هذه الدولة أو تلك لسنوات؛ إزاء فكرة أو خاطر العودة إلى بلدهم؟ ما الهموم التي ستستوطن أذهانهم، وتؤول إليه قناعاتهم، والحال في بلدهم -كما هو معروف أيضًا- إرهاب وخراب ويباب؟ ثمَّ، إلامَ سيؤول معنى البلد بعد أن كوتهم السلطة بالطغيان وهم فيه، ثمَّ أبادتهم ودمَّرت بيوتهم ومصادر رزقهم حتى “يهجُّوا” منه؟

وفي بون المفارقة بين ما يرويه ويتخيَّله صديقي الياباني، من مشاعره وأحواله وهواجسه التي تراوده وتدفعه للكآبة جرَّاء رجوعه إلى بلاده؛ وبين ما يتشظّى من تساؤلاتي المتولدة من جحيم التغريبة السورية.. يبدو أنني سرحتُ بعيدًا جدًا عمّا كان يقوله، بحيث أحسستُ بنقرٍ خفيف على كتفي، وسمعته يعتذر منّي -باللطف الياباني المعهود- كونه تسبَّب بنقل حالته إليَّ، راجيًا ألاّ أنشغل عليه، “لأنني لن أعدم حيلة لإعادة تقبُّلي للحياة هناك”، على حدّ تعبيره!!

والآن، حتى لو حنَّ السوريون إلى بلدهم بعد تهجيرهم -لسنوات لا أحد يعرف عددها- فهل ستبقى سورية بلدًا له حضنٌ ليحنُّ أهله له ويؤوبون إليه من منافيهم وغربتهم؛ أم أنّ مَنْ باع قد باع، ومَنْ أحرق قد أحرق -كما وعدتْ عصابات الأسد- بحيث لم يعد يجدي سؤالٌ، ولا عاد من ضرورةٍ لجواب؟




المصدر