ما الذي تبقى من الدولة؟
24 تموز (يوليو - جويلية)، 2017
محمد ديبو
كانت الحرب العالمية الأولى بمثابة آخر مسمار في نعش عصر الإمبراطوريات، ليبدأ تدريجيًا عهد الدولة بالتمثل واقعًا دوليًا، الدولة التي تقوم على علم وسيادة وحدود، على خلاف الإمبراطورية التي لا حدود لها ولا شعب، بل أعراق وأديان (ملل ونحل)، يضمها كيان فضفاض من الولاء للإمبراطور والتوسع الشره الذي أوقفه عمليًا عصر القوميات الذي ولد معه مفهوم الشعب الذي يعيش في وعاء الدولة/ الأمة.
على عكس الإمبراطورية، جعلت الدولة (في بعض أنواعها) من مهمتها قومنة الشعب ومركزة السلطة واحتكار العنف وقيادة عملية التحديث السياسي والاجتماعي، وذلك في ظل نظام جديد مثلته الأمم المتحدة التي ولدت هي الأخرى، على أنقاض انهيار عصر وولادة عصر بعد عجز “عصبة الأمم” عن تمثل روح النظام الدولي الجديد؛ لنكون إزاء عالمٍ يقوم على احترام سيادة الدول وحدودها، وليبدأ عهد الدولة فعلًا.
إلا أن تلك الدولة التي تمكنت، خلال عقود طويلة، من تحقيق “الاستقرار” الداخلي (سواء بقوة العنف والأيديولوجية أو بقوة الدستور) والخارجي نسبيًا، من خلال احترام مبادئ الأمم المتحدة بالحد الأدنى. هذه الدولة تتعرّض اليومَ لتآكل على المستويَين الداخلي والخارجي، إذ يكفي أن نستعرض بشكل سريع بعضَ الأحداث التي تتعلق بانتهاك سيادة الدول من خارج القانون الدولي؛ لندرك الحد الذي وصلنا إليه: ميليشيات عراقية وإيرانية أفغانية ولبنانية في سورية، انهيار الحدود السورية كليًا من الجهات كافة، إعلان (داعش) “الوحدة” بين سورية والعراق، (بوكو حرام) تنشط في مربع حدود الدول الأربع التي تستهدفها (نيجيريا، النيجر، الكاميرون، تشاد) التحالف العربي الإسلامي في اليمن، والتحالف الدولي ضد (داعش) في سورية والعراق، الاحتلال الروسي والإيراني لسورية، الغزو الروسي لأوكرانيا، التدخل السعودي في البحرين.. دون أن ننسى التدخل الاستخباراتي المعلن (والمخفي أكثر منه) لأكثر من دولة بطريقة أو بأخرى (غرفة الموك في الأردن مثالًا)؛ الأمر الذي يضعنا أمام أسئلة: ما الذي تبقى من فكرة الدولة حقًا؟ وهل ينهار نظام الدولة اليوم مجددًا، لصالحِ أي كيان جديد؟
الملاحظ، في الأمثلة السابقة، دخول معطى جديد إلى معادلة هتك الدولة، إذ كنا سابقًا نشهد أحداثًا متفرقة عن هتك الدولة، مثل القصف الأميركي هنا وهناك، والتدخل شبه العلني لدعم هذا النظام أو إحداث انقلاب ما أو الغزو المعلن، من قبل دولة أو مجموعة دول، لبلدٍ ثالث (العراق أفغانستان)، فيما نشهد اليوم دخول عنصر الميليشيات المحلية والطائفية والدينية والقومية على الخط، إذ لم يعد الأمر محصورًا بدولة أو مجموعة دول ضد دولة أخرى، بل بتنا نرى أن دور الميليشيات يتكاثف بطريقة غير قابلة للاحتواء، وبما يصل حد هتك كل ما راكمته الدولة على صعيد حدثنة المجتمع (على الرغم من ضآلته وعلاته)، إي إعادة إحياء الطوائف والقوميات والملل والنحل وتقديمها بوصفها المعبّر عن الجماعات، طبعًا بالتوازي مع الحروب والمجازر والتهجير والقتل على الهوية وإحداث الهندسة الديموغرافية الجديدة خدمة لمشاريع خارجية، بحيث تتقاطع مصلحة الطائفة/ القومية مع الراعي الخارجي، أليس هذا جزءًا من تكوين النظام الإمبراطوري الذي كان سائدًا قبل عصر القوميات؟
إذن، تتعرض الدولة لانتهاك من ثلاث قوى: الأولى هي الدول القائمة على أمر النظام العالمي والمتحكمة بمصيره، وذلك حين تشكل التحالفات وتشن الحروب هنا وهناك، بما يحقق مصلحتها ضدّ مصلحة الشعوب والنظام الدولي نفسه. والثانية هي الميليشيات التي تحدثنا عنها، والتي باتت تلعب دورًا يزداد توسعًا مع الزمن. والثالثة هي التسلطية الاستبدادية التي جيّرت الدولة وحولتها من فكرة حداثية إلى فكرة قروطسية بإهاب حداثي؛ إذ عملت على هندسة المجتمع بما يضمن لها الحكم الدائم، وبما يوقف هذه المجتمعات على حواف الحرب الأهلية التي لا تتورع عن إطلاقها، حين يتهدد حكمها، مستعينة بالطوائف والإرهاب، والخارج الذي يجد الفرصة متاحة لتحقيق أهدافه؛ فيسعى الاستبداد للتقاطع والتكيف من جديد (الثورة المضادة).
الأخطر اليوم، ليس ما سبق فقط، بل ظهور دلائل كثيرة على عودة عصر الإمبراطوريات؛ إذ نشهد اليوم ولادة قوى عابرة للحدود (إيران وتركيا)، وبعضها عابر للقارات (الصين وروسيا وأميركا بطبيعة الحال). ففي المنطقة العربية نشهد اليوم عودة الصراع التركي-الإيراني، بشكله الأكثر رثاثة، وكلا المشروعين لا يعبّر عن تنافس من مفهوم الدولة الحديث، بل إنهما لا يتورعان عن الإعلان عن صراع فارسي-عثماني واضح الملامح؛ الأمر الذي يُحيل إلى الصراع التاريخي الثقيل لهاتين القوتين، وهو صراع باتت له امتداداته على الأرض، سواء من خلال التدخل المباشر (تركيا في الشمال السوري) أو عبر الأذرع التي لا تتورع عن إعلان انتمائها الخارجي بفجاجة (حزب الله، الحشد الشعبي، فصائل المعارضة السورية التي تتلقى دعمها من الخارج)، ويضاف إلى هذا الصراع الإقليمي، الصراع الروسي-الأميركي، دون أن ننسى أن الصين تقف خلفهما أيضًا، عبر مشروعَي طريق الحرير والحزام اللذين تستخدمها للتقدم على منصة العالم تدريجيًا. وهنا لا ننسى أن بوتين قال لطفل روسي إن روسيا ليس لها حدود!. إن خلفيات الصراع الأوروبي التركي ذات الإرث العثماني الثقيل باتت تطل برأسها على خلفية الصدام بين أوروبا وتركيا مؤخرًا! فهل بتنا أمام عصر جديد؟
[sociallocker] [/sociallocker]