مساعي “أسرلة” الجولان تتسرب عبر “الانتخابات المحلية”

24 يوليو، 2017

أيمن أبو جبل

لا يختلف سكان الجولان السوري المحتل عن أبناء شعبهم السوري، في تفاعلهم وتعاملهم مع الكارثة الوطنية والإنسانية التي أصابت وطنهم، منذ انطلاق الثورة السورية التي قوبلت بالحديد والنار، إلا أن وجودهم تحت حكم الاحتلال الإسرائيلي، منذ أكثر من نصف قرن، يحمل اختلافات مميزة وعلامات فارقة، على المستوى السياسي والإنساني والحياتي، وفرت عوامل طبيعية لتحديد جزء من وعيهم وإدراكهم، في التعامل مع قضاياهم المحلية والوطنية السورية.

حتى شباط 1982 لم يحظَ سكان الجولان المحتل بأي اهتمام، أو أي ذكر في وسائل الإعلام السورية الرسمية، إلا أن الانتفاضة الشعبية لسكان الجولان عام 1982 وقرار الحكومة الإسرائيلية بضم الجولان السورية إلى كيانها، فرضت على إعلام النظام التعاطي معهم، وتغطية انتفاضتهم الكبيرة إعلاميًا، وإن كان بطرق وأساليب استهلاكية ودعائية.

فمن جهة، أبرز النظام فجأةً وجودهم وسلط الأضواء على نضالهم وتضحياتهم وصمودهم، في المعركة الشعبية والجماهيرية التي يخوضونها ضد المحتل الإسرائيلي، بعد أن احتفل عبر إعلامه بأنه انتصر في حرب 1973 وحرر الجولان ورفع العلم السوري على القنيطرة، ومن جهة أخرى، سعى النظام، من خلال تسليط الضوء على الجولان المحتل، إلى إخفاء وتجاهل المجازر والإبادة الجماعية التي نفذتها قواته في مدينة حماة عام 1982، بعد الجرائم التي ارتكبتها “الطليعة المقاتلة” المنشقة عن حركة الإخوان المسلمين، والصراع مع الإخوان المسلمين بين عام 1979 و1982، وراح ضحيتها عشرات آلاف المدنيين السوريين، تحت القصف والتصفية المباشرة واستباحة المدينة.

سادت سنوات من تعامل النظام السطحي الاستهلاكي مع القضية الوطنية السورية في الجولان المحتل، وأخضع العلاقة مع الأرض المحتلة في الجولان إلى معايير غريبة، أساسها “الولاء قبل الانتماء”، حيث نشطت أجهزة الأمن في فرع فلسطين وسعسع والاستخبارات العسكرية بتنظيم وترتيب تلك العلاقة، وتحديد شكلها، والعمل على فرز الوجوه والشخصيات الموالية له، وغير الموالية، ورصد أنشطتهم ومواقفهم، من خلال شراء ذمم وعيون أشخاص ارتهنوا لتعليمات أجهزة الأمن السورية، باسم “حماية الوطن”. ونسج المسؤولين النافذين في الأفرع الأمنية المسؤولة عن المنطقة الجنوبية، علاقات “مسخة” ومُشوهة مع فئات محلية جولانية، خالية من أي مضمون وطني، ركيزتها الأساسية الفساد “وتقديم التقارير”، ودعم تلك العلاقات باسم الوطن، ورضا القيادة، كان الغرض منها تشكيل “جوقات شعبية” تابعة نافذة محسوبة على “القيادة”، حاولت في بعض مواقفها إفراغ العمل الوطني والنضالي ضد الاحتلال من مضامينه وإبعاده عن أهدافه في التحرر والتحرير من نير الاحتلال، وتبنت موقفًا يرى في العمل المؤسساتي التقدمي والديمقراطي الذي نشط خلاله الناشطون الوطنيون والأكاديميون في الجولان المحتل ، خطرًا محتملا على الوطن “القيادة”، بسبب عدم انجراره إلى جوقات التهليل والمبايعات الغوغائية التي نُظمت في الجولان المحتل “للقائد المفدى”، خصوصًا بعد أزمة الخليج الأولى والغزو العراقي للكويت، وانعقاد مؤتمر مدريد للسلام، في بداية التسعينيات. في الوقت الذي كان تعمل فيه هذه المؤسسات والشخصيات الوطنية على ترسيخ الانتماء الوطني السوري لدى أبناء الارض المحتلة، وصون الهوية الثقافية السورية، في كل البرامج والفاعليات البديلة التي اعتمدتها في مواجهة مشاريع “الأسرلة” التي بدأت تعلو على الساحة السياسية والاجتماعية والتعليمية، في الجولان السوري المحتل.

لقد كان سكان الجولان المحتل مطالبون وحدهم -كما في كل محطات نضالهم وكفاحهم الوطني والتحرري- بمواجهة اختزال وتذويب هويتهم الوطنية السورية، والتصدي لمحاولات سلخ انتمائهم واستبدال جنسيتهم وجعلهم من الناحية المدنية والقانونية “مواطنين في الدولة اليهودية”، وليس مواطنين في منطقة محتلة، تنطبق عليهم المواثيق والقوانين الدولية؛ الأمر الذي يمس جوهر وجودهم وينسف تاريخهم، خصوصًا بعد الأحداث الموجعة التي ضربت الوطن السوري خلال الستة أعوام الماضية.

لقد ساعدت الحرب بالوكالة على الأرض السورية، في إعادة صياغة منظومة الوعي والمفاهيم الوطنية والفكرية، وتقويض وانهيار منظومة المعتقدات والتعريفات السابقة التي تربى وعاش عليها معظم الجولانيين؛ الأمر الذي جعل المسؤولين الإسرائيليين يتسارعون إلى ملائمة هذه المتغيرات، بما يتلاءم مع مصلحة الدولة اليهودية، ومحاولة تغير المعادلات والقرارات الدولية التي ترفض السيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل. وفي الوقت نفسه، فرض الأمر الواقع على السكان السوريين، من خلال تطبيق وتتنفيذ العديد من البرامج الإسرائيلية، في مختلف مجالات الحياة، دفعهم إلى الاندماج أكثر في واقع وتفاصيل الحياة الإسرائيلية، في مرحلة انهيار الدولة السورية التقليدية التي عرفوها، وحلموا بالعودة إليها أرضًا وشعبًا وهوية.

إن الإعلان الإسرائيلي، عن إجراء انتخابات للسلطات المحلية في الجولان السوري المحتل، لم يكن البرنامج الوحيد، ولن يكون الأخير الذي يمهد إلى “أسرلة” الجولان رسميًا، وهذا بالضرورة يمهد لتفتيت الانتماء الوطني على المستوى السياسي، ويصادر الإرث النضالي الذي تباهى به الجولانيون على مدار أجيال، ويزج بهم في تفاصيل “بورصة الانتخابات الإسرائيلية” المحلية والتشريعية لاحقًا، ويمهد أرضية خصبة لفتنٍ وإشكالاتٍ اجتماعية وعائلية وقروية بين أبناء المجتمع الجولاني الذي لا يزال يحتفظ بشعور “الولاء العائلي”، على خلفية أي عملية انتخاب تشرعِن الاحتلال، ويخلق في الوقت نفسه وقائع جديدة، تمنعهم من الاستمرار في أوضاعهم الراهنة “مواطنون مقيمون في هضبة الجولان”، بحسب التعريف الإسرائيلي لبطاقة التعريف الإسرائيلية التي يحملونها. لتصبح الجنسية الإسرائيلية في وعيهم خيارًا “شريرًا” لا مفر منه.

وبحسب إحصاءات وزارة الداخلية الإسرائيلية، فإن عدد الحاصلين على الجنسية الإسرائيلية، حتى أيار/ مايو 2017، بلغ نحو 5266 شخصًا من أبناء الجولان السوري المحتل، من مجموع السكان السورين البالغ عددهم 25.500 ألف نسمة، يقطنون الجولان المحتل، حيث ترفض الغالبية العظمى من السكان مبررات طلبات الحصول على الجنسية التي يتقدم بها البعض، كما يرفضون الجنسية الإسرائيلية ذاتها، بكل إفرازاتها ومستحقاتها وفوائدها التي تنحصر بتسهيلات السفر إلى الخارج، من دون فيزا، لدى قسم من طالبي الجنسية، فيما قسم آخر يبرر حصوله عليها، كردة فعل على الأحداث في سورية، وتخوفه من المستقبل الغامض للجولان أرضًا وشعبًا، في ظل استمرار حكم بشار الأسد، أو سواه في مرحلة ما بعد الأسد، فضلًا عن الثقافة الإجرامية التي تسود الوطن السوري والتي أفرزها النظام ذاته والمجموعات المسلحة على حد سواء.

من هنا بدأت طواقم الهندسة البشرية الإسرائيلية، بالتسلل إلى تفاصيل المجتمع الجولاني، وبدأت محاولات “الأسرلة” التي نشطت مؤخرًا، ولن تنتهي بإعلان إجراء الانتخابات للسلطات المحلية في القرى الأربع (مجدل شمس-بقعاثا-مسعدة-عين قنية). أما في ما يتعلق في قرية الغجرالسورية، فإن سكانها يشاركون في الانتخابات المحلية والتشريعية الإسرائيلية، ويعدّون، وفق القانون الإسرائيلي، مواطنين إسرائيليين بالكامل لحيازتهم الجنسية الإسرائيلية، منذ عام 1981-1982.

يمكن القول إن السلطات الإسرائيلية استفادت جيدًا وبشكل مجاني من عدم أهلية النظام السوري، ومن “ردّه المناسب في المكان والزمان المناسبين”، وعدم حرصه وجديته في تخفيف العبء السياسي عن المواطنين من أبناء الجولان في الجزء المحتل، وعدم دعمه “لصمودهم” على أرض الواقع طوال نصف قرن، بخلق بدائل عن مؤسسات سلطات الاحتلال بمختلف المجالات الحياتية، وتوفير دعائم صمود للنضال الوطني في الجولان. واستغلت بشكل مدروس المتغيرات التي أحدثتها الثورة السورية وما تلاها من إفرازات الحرب والقتل وسفك الدم والتشريد والتهجير والتغيرات الديموغرافية، وفتح الوطن السوري أمام كل مرتزقة العالم، دولًا إقليمية وتنظيمات وميليشيات إرهابية..

هكذا، أمام الحالة الوطنية والسياسية والأمنية والخطاب الاستهلاكي الرسمي الذي ما زال سائدًا حتى اليوم، فإن هناك ارتفاعًا في عدد أصوات المطالبين بإجراء انتخابات للسلطة المحلية، رغم الموقف الشعبي الرافض لمشروع “الأسرلة” برمته، والذي عُبّر عنه في لقاء “أبو ذر الغفاري”، قبل عدة أسابيع، حيث تتسلل مساعي “الأسرلة” المختلفة، في عدة جوانب واتجاهات، وتأخذ في غالبيتها الجانب المدني والخدماتي والتطويري والتنموي والترفيهي والثقافي والرياضي، والشبابي والتربوي والتعليمي، وترصد لها ميزانيات هائلة جدًا، وصلت في القطاع التربوي والثقافي وحده إلى 58 مليون شيكل.

وأمام حالة الشعور بالهزيمة أو الكُفر، لدى قسم كبير من الفئات الفاعلة والنافذة في المجتمع الجولاني، وعدم اكتراثها بما يحدث خلال السنوات الاخيرة، فإن على الفاعلين في المجتمع الجولاني من المؤسسات العاملة والشخصيات والفئات الاجتماعية المختلفة، والمجموعات الشبابية التي تشكلت مؤخرًا لمواجهة مشاريع الأسرلة، عليهم البحث عن وسائل وأدوات عملية وواقعية وموضوعية، والعمل على تفكيك وكشف الأوهام التي تروج لها السلطة الإسرائيلية، أو أي إطار محلي سوري داخل الجولان المحتل، أو خارجه، ممن يروجون لخطة سلام مع الدولة العبرية، وفصل قضية الجولان عن القضية السورية، وسعيهم إلى تشكيل أداة محلية تحقق بالوكالة المصالح الإسرائيلية.

ضمن رؤية، تبيض الدور الإسرائيلي في دعم النازحين ومعالجة الجرحى السورين في المشافي الإسرائيلية، وتنمية وتطوير قرى الجولان المحتل، ومقارنة ذلك بتقاعس وتجاهل النظام لقضايا الجولان في الجزء المحتل والجزء الواقع في الأراضي السورية، طيلة نصف قرن من عمر الاحتلال، وجرائمه ضد شعبه خلال الستة أعوام الماضية، حيث تم مؤخرًا الكشف عن خطة سلام تروج لها شخصيات سورية تُعرّف عن نفسها كمعارضة للنظام السوري، زارت (إسرائيل) والتقت مع شخصيات شبيهة لها في الجولان المحتل، ولديها لواء عسكري في المنطقة الجنوبية، يتلقى الدعم المالي والعسكري من (إسرائيل) “باسم فرسان الجولان”، بالتزامن مع توقيع اتفاق خفض التصعيد في المنطقة الجنوبية، والذي يشمل ثلاث محافظات سورية السويداء ودرعا والقنيطرة، فضلًا عن الأراضي المحتلة في الجولان السوري.

وفي إطار إيجاد السبل التي تتيح للجولانيين، والسوريين عمومًا، التخلصَ من مشاريع “الأسرلة”، في ظل هذا العجز وفوضى الحرب والمصير المجهول؛ عليهم بناء آلية للتواصل فيما بينهم، وتمزيق الخطاب القديم، واستبداله بخطاب وطني أعمق وأشمل، وخلق قنوات للتواصل بين الجولان المحتل وأبنائه من المهجرين والنازحين، وتكثيف اللقاءات مع الأطر والشخصيات العلمانية والتقدمية والديمقراطية المعارضة والموالية للنظام “دون الشبيحة”، والمعارضة لكل التنظيمات العسكرية المتطرفة، والتنصل بشدة من كل الجهات والشخصيات السياسية أو الفكرية التي تجد أن معاداة النظام تُبيح وتُشرعن الاحتلال الإسرائيلي للجولان والأرض الفلسطينية، وتعتقد أن “ليبرالية الاحتلال”، بالمقارنة مع ديكتاتورية النظام العربي، تُخفي جرائمه وعنصريته.

وعلى مستوى الجولان المحتل، فإن الفاعليات والمؤسسات والشخصيات الوطنية مُلزمة -أخلاقيا ووطنيًا- بخلق حوار داخلي بينها، يتجاوز كل الخلافات والاختلافات التي أفرزتها الثورة السورية، والموقف العام من نظام الأسد، وإيجاد الطرق الملائمة لاستعادة ما شتته النزعات الفردية والذاتية، والمواقف السياسية المتشنجة، وحرف العمل الاجتماعي عن أهدافه، والعودة إلى تبنى ودعم البرامج الوطنية البديلة التي منحت هذه المؤسسات الوطنية والمهنية شرعيتها الأخلاقية والوطنية، وبررت وجودها، في مجال الفن والثقافة والطب، والطب التخصصي، ورياض الاطفال، والمخيمات الصيفية، والمهرجانات الوطنية والفنية والموسيقية، وحماية الإبداعات والطاقات المحلية، لصيانة الهوية الثقافية السورية، وهي قادرة بحكم إمكاناتها، بعيدًا عن تلك التي تمس جوهرها، وتشوهها شكلًا ومضمونًا، وهي مطالبة بتوفير وتخصيص الدعم الكامل، لاستعادة مشروع الإعلام ومشروع التوثيق الوطني الممنهج، في إطار الحفاظ وصيانة الهوية الوطنية السورية للجولان التي يتهددها الضياع، إن بقي صمتنا وتقاعسنا، وانكفاؤنا، أو اكتفاؤنا بالشجب والتنديد والتهديد والوعيد الأجوف، في بياناتنا الشعبية والجماهيرية، هو العنوان الوحيد لردات فعلنا.

لقد ساهم إيقاف العمل في البرامج الوطنية البديلة التي انتهجتها المؤسسات الوطنية، خلال 35 عامًا، وانحصار عملها اليوم “كمقاول خدمات مهنية”، في فتح المجال لكل الأنشطة والبرامج والفاعليات التي تؤسس وتشجع وتعزز لمشروع “أسرلة” الجولان وسكانه الذين يحتاجون بقوة إلى تلك البرامج الوطنية البديلة التي تحاكي ضمائرهم ووجدانهم وصورهم ونفوسهم وتاريخهم وماضيهم وجذورهم، وهذا عامل قوة لنجاح تلك البرامج، أمام تلك التي تحاكي الإخلاص والولاء لدولة يهودية صهيونية وقيمها ورموزها.

أخيرًا، إن المواطنة الإسرائيلية -مهما بلغت الأحاجي والتبريرات والذرائع وتعددت- لن تجعل العربي في الدولة العبرية يهوديًا، وإن استبدل اسمه ودينه، ولن تجعله مواطنًا “صاحب حقوق مدنية وقانونية”، في دولة تعدّه “غريبًا” في فكرها الديني وتشريعاتها القانونية. حيث يشترط القانون، للحصول على المواطنة لطالب الجنسية الإسرائيلية، إعلانَ الولاء وفق النص الآتي: “ألتزمُ بالإخلاص والولاء لدولة (إسرائيل) كدولة يهوديّة، وصهيونيّة وديموقراطيّة، ولرموزها وقيمها…”. وإن ما يروج له البعض من أن المواطنة أو الجنسية الإسرائيلية للمواطن الجولاني، تحمل ميزات وتميزات تختلف عن إخواننا العرب الفلسطينيين، أو عن إخواننا من أبناء الطائفة المعروفية في الداخل الفلسطيني، فإنه يخدع نفسه كمن يحاول أن يخفي الشمس بغربال.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]