الباحث تركماني في “منتدى الفرات”: غياب النخب يعيق الوصول إلى الجمهورية المنشودة


جيرون

“غياب النخب الفكرية والسياسية القادرة على رسم خارطة طريق للتغيير، والخروج من هذا المخاض الدامي  في سورية، وفق مبدأ تقليص الخسائر وتعظيم الفوائد؛ ساهم في تأخير عملية الانتقال إلى الجمهورية التي نصبو إليها، إذ إن التاريخ يثبت أنّ تلك النخب، بالاستناد إلى الحواضن الاجتماعية، هي التي قادت بلادها خلال المآزق الكبرى إلى بر الأمان، وساهمت إلى حد بعيد في رسم ملامح مستقبل شعوبها وبلادها”، بهذا الاستهلال بدأ الباحث في (مركز حرمون للدراسات المعاصرة) عبد الله تركماني محاضرته (نشأة الدولة السورية وتحولاتها) التي نظمها (منتدى الفرات للحوار)، يوم أمس الإثنين، وألقاها في مقر المركز في مدينة غازي عنتاب التركية.

تضمنت المحاضرة ثلاثة محاور رئيسة، أضاء خلالها المحاضر أهم المراحل التي مرت بها الدولة السورية في التاريخ المعاصر، وصولًا إلى الاستعصاء الحالي في العبور نحو دولة العدالة والكرامة الإنسانية.

نشأة الجمهورية الأولى

تطرق المحاضر، في المحور الأول، إلى فترة الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، وما رافقها من صعود للشعور الوطني، وازدهار أو نمو اقتصادي عايشته سورية، في تلك المرحلة، بالرغم مما شهدته من انقلابات عسكرية متلاحقة، وصولًا إلى العام 1954. وهي -باتفاق غالبية المهتمين بالتاريخ السياسي- الفترة الذهبية للدولة السورية المعاصرة، نظرًا إلى ما عرفته من حياةٍ برلمانية دستورية، أسّس لها دستور البلاد آنذاك، بما انطوى عليه من مبادئ الحرية والقانون والعدالة، وبما كرسه من مفاهيم دولة المواطنين الأحرار المتساويين في الحقوق الواجبات، وانتهت هذه الفترة مع إعلان الوحدة بين سورية ومصر، عام 1958.

استعرض تركماني، في هذا المحور أيضًا، مرحلةَ الانفصال عام 1961، مشيرًا إلى أن هذه الفترة تشبه المرحلة التي عاشتها سورية، بعد إسقاط ديكتاتورية أديب الشيشكلي عام 1954، فقد تشكلت حكومة مدنية، وبعد ذلك بشهرين؛ أُجريت الانتخابات البرلمانية التي كانت نتائجها شبيهة بنتائج انتخابات العام 1954، حيث فاز المستقلون وممثلو قبائل البدو بـ 42 بالمئة من المقاعد، وأتى (حزب الشعب) على رأس الأحزاب المشاركة بعد فوزه بـ 22 بالمئة من المقاعد، و(الحزب الوطني) بـ 14 بالمئة، و(حزب البعث العربي الاشتراكي) بـ 14 بالمئة.

الديكتاتورية العسكرية ونشأة الجمهورية الثانية

تحدث تركماني، في هذا الجانب، عن التحولات التي عايشتها الدولة السورية، منذ الانقلاب العسكري الذي جاء بـ (حزب البعث)، في الثامن من آذار عام 1963، وذلك وفق ثلاثة عناوين (انقلاب الأسد الأب في تشرين الثاني 1970، آليات عمل البنية الداخلية للنظام، آليات عمل النظام لتطويع الشعب).

ركز المحاضر، في العنوان الأول، على أنه منذ انقلاب حافظ الأسد، ارتبط تاريخ حزب البعث ونظامه بسيرة الأول، بوصفة قائد المسيرة، وهو ما عبرت عنه مؤتمرات الحزب المتعاقبة، وما أطلقته من شعارات مثل (القيادة التاريخية الاستثنائية).

في حين شدد تركماني، خلال الحديث عن العنوان الثاني، على أن “النظام الأسدي تأسس على أربعة قوانين ناظمة للممارسة والأداء السلطوي: أولًا، أحادية السلطة واختزال مؤسسات الحكم برمتها بشخص وقرارات ورغبات الرئيس الحاكم. ثانيًا، اشتراط الولاء المطلق والطاعة العمياء لكل أوامر الرأس الحاكم الأوحد ورغباته. ثالثًا، ضمان ولاء الأتباع بإشراكهم بالفوائد والمكاسب، بصفتها مغانم ومكاسب هيمنة النظام، بحيث يصبح مقياس الولاء ومدى رضوخ الأتباع معيار تقدير الحصص المعطاة لهم من المغانم. رابعًا، التعامل مع الشارع العام بمنطق حالة النفير العام، بما تتطلبه من تطبيق الأحكام العرفية والإدارة العسكرية الأمنية”.

فالنظام السوري لم يكن -بأي حال من الأحوال- نظامَ الطائفة العلوية، وهو ما تثبته العديد من الدراسات الاقتصادية والاجتماعية التي تظهر بوضوح مدى سوء أحوال أبناء الأخيرة، فـ “الطائفة العلوية كانت -وما زالت- رهينة بيد نظام الحكم في سورية”.

ونبه إلى أنه يمكن تمييز ثلاثة أركان للدولة الأمنية التسلطية، تمكنها من إنتاج مجتمعها الجماهيري هي: الإرهاب، الأيديولوجيا، والإعلام الموجه. لافتًا إلى أنه يمكن تمييز أربعة مستويات في هرم سلطة الأسد. “الأول: يتعلق بالمسائل الحاسمة بالنسبة إلى نظامه، كالأمن والشؤون الخارجية وجميعها بيده. الثاني: رؤساء شبكات الاستخبارات والأمن المتعددة التي تعمل باستقلال عن بعضها، وتتمتع بحرية واسعة، إضافة إلى قادة التشكيلات المسلحة النخبوية الحامية للنظام (الحرس الجمهوري، والقوات الخاصة، والفرقة الثالثة المدرعة، وسرايا الدفاع قبل عام 1984). الثالث قيادة حزب البعث التي تعمل كهيئة استشارية للأسد، وتراقب عبر الآلة الحزبية تنفيذ سياساته. أما الرابع فهو الوزراء وكبار موظفي الدولة والمحافظون وقادة المنظمات الشعبية”.

بينما تطرق تركماني، في العنوان الثالث، إلى أن “ما أشاعه النظام من حالة السلبية والعزوف عن الشأن العام؛ ساهم في غياب حس المبادرة والتفكير المستقل لدى غالبية الأفراد والجماعات، وأدى إلى انحسار السوريين، ضمن هويات فرعية مغلقة (إثنية/ طائفية/ مذهبية/ عشائرية)، ولم يسمح لهم ببلورة أفكارهم أو التعبير عن ذواتهم”. مشيرًا إلى أن النظام اعتمد في ذلك على “القمع الجماعي وزرع الرعب والإرهاب في بعض المدن. حيث يتحول المواطنون فجأة إلى رهائن في سجن كبير، مع كل الاحتمالات من إذلال مهين للكرامة الشخصية، حتى الاعتقال والتعذيب، بما في ذلك التصفية الجسدية الجماعية”.

انتقل تركماني بعد ذلك إلى مرحلة وصول بشار الأسد إلى الحكم؛ الأمر الذي عزز التحول في الجمهورية الثانية، من مجرد تحالف بين نواة عسكرية مع رجال أعمال طفيليين، إلى نظام رأسمالي مافيوي احتكاري استبدادي، يطلق العنان لـ “نيوليبرالية دولتية” فاسدة وناهبة.

الثورة والجمهورية الثالثة

انطلق تركماني، في هذا المحور، من معطيات تؤكد أنّ حالة الاستعصاء الراهنة التي دخلها الصراع في سورية مع استمرار التضحيات الجسيمة للشعب السوري، تجعل التفكيرَ، في كيفية نقل السلطة ومفاتيحها إلى شرعية دستورية ديمقراطية، التحديَ الأكبر الذي يواجه الانتقال إلى الجمهورية الثالثة.

وشدد على أن السوريين مطالبون بالإجابة عن مجموعة من الأسئلة المركزية، منها: ما هي مآلات الجمهورية السورية على صعيد الدولة والمجتمع، وعلى صعيد الجغرافيا والديموغرافيا؟ وهل ما زال ثمة أمل يرجى من استمرار هذه الجمهورية؟ وما هي الإجماعات الجديدة التي ستتشكل عند السوريين الجدد؟ كيف يمكن أن يتحقق الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية في سورية؟ أي كيف يتم تفكيك النظام الشمولي والدولة الأمنية؟ وكيف يعاد إنتاج النظام السياسي على نحو يؤسس لديمقراطية تشكل أساسًا للتغيير، بكل مستوياته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بما يفرضه ذلك من إعادة بناء الدولة السورية الحديثة؟

ولفت النظر إلى أنه “من غير الممكن تصور سورية لكل مواطنيها، بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة السورية الحديثة”.

تخلل الفاعلية نقاشات بين الحضور والمحاضر، تمحورت حول أبرز النقاط التي تناولها تركماني.

وكان الباحث في (حرمون) مناف الحمد افتتح المحاضرةَ بكلمة رحّب فيها بالحضور، وعرّف بـ (منتدى الفرات للحوار)، بوصفه إحدى منصات (حرمون)، مشيرًا إلى أن المنتدى نظم العديد من الندوات واللقاءات السابقة، أبرزها (واقع تعليم اللاجئين السوريين في تركيا ومستقبله، أهم مشكلات اللاجئين السوريين في دول الجوار، الدولة المدنية في الفكر الإسلامي المعاصر).




المصدر