الكتابُ السوريُّ ينتظر الباص


سوزان علي

هل تغيّر واقع الكتاب في سورية، في فترة ما قبل الحرب عن الفترة التي تلتها؟

وما هي أسباب تلك التغيّرات، إن حدثَت؟

ما هي المعوقات التي تواجه الكتاب السوريّ، اليوم في الداخل والخارج؟

أين القارئ اليوم من واقع ما يُنشر؟ في ظلِّ تهافت كتب الأبراج مثلًا؟ وما هو دور الكتاب التنويري الآن، بين إغراء الكتب الصفراء ومزاج الرقابة من جهة؟ وهموم المواطن الحياتيّة اليومية والغلاء، من جهة أخرى؟

منذ بداية الأحداث، أُغلقت العديد من المكتبات في سورية، وهاجرت بعض دور النشر إلى مصر ولبنان وغيرها، سمعنا الكثير من الأخبار المؤلمة، عن مستودعات لدور نشر في ريف دمشق، تمّ تدميرها بالكامل ونزح أصحابها، نتيجة تواجد تلك المستودعات في المناطق الساخنة.

والآن، مع كلّ هذه التغيّرات، منذ ما يقارب السنوات السبع، لو أردنا أن نرش القليل من النقاط فوق الحروف، ونزيح الغشاوة عن استفهامات كثيرة تطال واقع الكتاب السوري، فلا بد لنا أن نبدأ بتشريح القصة منذ بداياتها، أي قبل أن تبدأ الحرب.

أسئلةٌ متنوعة، عَرضْتُ تقديمها إلى عدّة دُور نشرٍ في دمشق، بهدف الوصول إلى تغطية وجيزةٍ وشاملةٍ للكتاب السوري، لكنّ الجميع اعتذر عن الإجابة، معللًا رفضه بواقعه السيئ، متابعًا ندْبَ حظّه الذي بدأ معه منذ بداية تأسيسه للدار؛ إذ لم تتغير بكائيّات دور النشر القوميّة واليساريّة والدينيّة، منذ تأسيسها حتى الآن، على الرغم من انتشارهم الدائم على وقع ندبهم في كلّ المعارض العربية، فهل الندب جزء من شخصيّة الناشر؟ أم هو مجرد عادةٍ متأصلة لدى الجميع؟

السبب الجوهري الذي لا يمكننا إغفاله، هو أننا نعاني من انفصالٍ حقيقيّ مع ما يُكتب ويُنشر في الصحافة، ولست هنا في موقع يُخولني تفكيك الأسباب التي دفعت بأصحاب دور النشر إلى تصرفهم ذاك، لكنني وجدت في تبريراتهم إشكاليّات أخرى، ربما تحتاج أن نفرد لها صفحات فيما بعد.

دِرج الرقابة وأقفاله:

من المعروف أنّ جنس الكتاب (أدبي، فكري، ديني، سياسي… إلخ)، هو الذي يحدد المدة التي يقضيها في الرقابة، فإذا كان مؤلفًا (شعر، قصة، رواية)، فإن رقابته تتبع لاتحاد الكتاب العرب، وإن كان مترجمًا أو مُحققًا فإنه يخضع لرقابة وزارة الإعلام، فلكلّ ورقة رقابتها، وفي كلتا الحالتين يبقى الكتاب ما يقارب ثلاثة أشهر، وعندما تتمُّ الموافقة عليه، سيعاد بعد الطباعة إلى الرقابة مرًّة أخرى، ليأخذ موافقة للتدوال (التوزيع).

المعلومة المهمة والطريفة هنا، أنّ الرقابة في سورية تُقسم إلى قسمين، رقابة ما قبل الطباعة، ورقابة التوزيع، أمّا إذا كان الكتاب سياسيًّا أو ذا طابعٍ نقديٍّ دينيٍّ، عندئذ يُحوَّل إلى القيادة القطريّة.

مقارنًة بالرقابة في غالبيّة الدول العربيّة، تجدرُ الإشارة إلى أنَّ بروتوكول الموافقة المعتمد يتمُّ بعد الطباعة ولمرّةٍ واحدةٍ فقط.

ثقافة القراءة:

يدخلُ في تصميم الهيكل الرسميّ لكلِّ مدرسةٍ تقريبًا، مساحةٌ خاصة للمكتبة، إلا أنَّها تبقى، وكأنّها في حالة بناء المدرسة الأوليّ، تصميمًا على الورق فقط، يُشرف على ذاك التصميم موظفٌ يُدعى: (أمين المكتبة).

وظيفة أمين المكتبة التي يدلنَا اسمه على واجباته سلفًا، تقتصرُ على الغياب الدائم، فالتلاميذ اعتادوا على رؤيته مرّةً كلّ شهر؛ وبالتالي حرمان التلميذ من بناء تفكيره الخاص على أسسٍ وقواعد بعيدة عن مناهج التلقين والتسميع المتبعة في المدارس، فهي إضافةً إلى فراغ المكتبة من التلاميذ في حصّة المطالعة، تشكلُّ لبَّ المشكلة؛ إذ كيف سيقرأ التلاميذ كتابًا ويصلون عبره إلى استنتاجاتهم ويشكلون نقدهم الحر، وهم مُؤسَسون على نظام الحفظ والتلقين ومن ثمَّ التصفيق؟

الغبار هو أكثر رواد المكتبات في المدارس، وقد تفاعلت مركبّاته مع الوحدة القاتلة إلى درجة اختفاء عناوين الكتب تحت سماكته، ليصيرا معًا لونًا واحدًا.

وبما أن صورة المكتبة التي ينشأ عليها الطفل في المدرسة مشوّهة، سينتقل ذاك التشوّش في ذهنه إلى بيته، ولن يفكر باقتناء رفٍّ واحد يضع فوقه كتابًا ما.

دُور النشر وعلاقتها بالقارئ:

لم تختلف نسبة القراء قبل الحرب عمّا بعدها، فالمشكلة لم تكن ماديّة فحسب، كما تبيّن من إحصاءات وجداول دُور النشر؛ المشكلة في صميم التربية الاجتماعيّة والثقافيّة التي اتبعت خططًا وبرامجَ ساهمت في خلق هوّةٍ ساحقة بين الفرد والكتاب.

ونتيجة ضعف السياسات الثقافيّة في ظلّ صنم البيروقراطية، وغياب نشاط المراكز الثقافية واقتصارها على روادها القدماء، وتوجُّه غالبيّة فئة الشباب إلى المعابد الدينية، واحتلال الكراسي لأغلب المناصب الثقافية، وغيرها من الأسباب التي ألقت حملًا ثقيلًا على كاهل أصحاب دور النشر، بدءًا من العناوين التي تطبعها وخضوعها لذائقة القرّاء، وانتهاءً بسعرها غير المدروس؛ فسعر الكتاب في أيّ دار نشر 5000 ليرة سورية، أي ما يعادل عشر دولارات، لم تتبن تلك الدّور -منذ بداية الحرب- سياسة وآليّة تعتمدها لتشجيع القراءة بين الأفراد، بحيث تحقق التوازن بين المادّة والمعرفة؛ ما أدى إلى ظاهرةٍ واضحة ومتفشيّة وهي التزوير.

إيجابيّات وسلبيّات التزوير:

إذا كان سعر الكتاب في دار النشر يعادل 10 دولارات، فإن النسخة المزورة منه تُباعُ بـ 500 ليرة سورية؛ أي بدولار واحد، ومن البديهيّ أن يتجه القارئ إلى (بسطات) ورفوف الكتب المزوّرة، مغمض العينين، مقارنة بسعره الأصليّ، هذا عدا قرصنة الكتب عبر الإنترنت، وانتشار صيغة PDF في العديد من المواقع.

يأخذ التزوير عدة أشكال، فهو إمّا استنساخ، أي صورة مشوّهة عن الأصل، حيث جودة الحبر ضعيفةٌ جدًّا، مع تآكل بعض الكلمات، نتيجة طباعته على جهاز “الريزو”، ويمكن تمييز الكتاب المزور بيسرٍ، من ألوان غلافه الباهتة. ويسمّى هذا النوع من التزوير: (صورة فوتو كوبي باهتة عن الأصل).

أما النوع الثاني والأخطر، فهو تزوير الكتاب بترجمةٍ أخرى، دون إذن المؤلف والناشر، ككتب أمين معلوف وميلان كونديرا، التي طبعتها إحدى الدُور اللبنانية، لتعيد ترجمتها دار نشر سورية، من دون إذن مسبق.

عند مروري بـ (بسطات) الكتب، قرب التكيّة السليمانيّة وجسر الرئيس، حيث تتوزع الكتب المزوّرة، من روايات أمين معلوف إلى يوسف زيدان ومؤخرًا إليف شافاك. يتبين لي أن المتأثر الأكبر من تلك النسخ هي دُور النشر والمؤلف.

ولكن لنكن إيجابيين أكثر، الكتب المزوّرة تلقى رواجًا كبيرًا لسهولة وصولها إلى القارئ، فهي ليست في مكتبة داخل أزقة المدينة، بل تقع في مراكز حيويّة، يمرُّ من أمامها يوميٍّا آلاف البشر، من مختلف المستويات والطبقات، وهي نقطة التقاء وسائل النقل، وفيها تجمعٌ طلابيّ كبير نتيجة قربها من جامعة دمشق، إضافة إلى كون سعر هذا الكتاب رخيصًا جدّا مقارنة بسعره الأصليّ، عدا عن توافره بكثرة.

فالقارئ لا يهمهُ النسخة إن كانت أصليّة أم لا، ما دام سعرها يوافق دخله وجدول ضروريات حياته اليومية.

انتشار ثقافة التزوير يمكن ردّهُ إلى الواقع المعاش، وإلى عدم تمييز القارئ للفوارق بين الكتاب الأصليّ والكتاب المقرصن. لكن كيف وصلنا إلى هنا؟

يبدو الأمر بسيطًا، لكنّه يعود برُمّته إلى الماضي السحيق، فالتلميذ الذي تخرّج من المدرسة والجامعة، ولم يأخذ طوال تلك الفترة حصّة مطالعةٍ واحدةٍ، وأمين المكتبة الأشبه بالعاطل عن العمل، وثقافة التلقين والحفظ، جعلت الفرد يفتقرُ إلى أدوات وخيوط تعلّم القراءة، خارج زخم المعلومات المقررة في المنهاج الجامعي أو المدرسي، عدا بعض الاستثناءات -طبعًا- التي لم تقف عند تلك العقبات وشقّت طريقها بنفسها.

قد يصلُ عدد العناوين المزورة إلى 15 ألف عنوان في سورية، أغلبها ينفق بالكامل، بينما يطبع الناشر تقريبًا 5000 آلاف نسخة أصليّة، لا يبيع منها إلا نسبة قليلة، في معظم الأحيان، والخسارة هنا تصيب الناشر والقارئ معًا، فالأولّ لم يستطع أن يحمي الحقوق الفكريّة والماديّة للكتاب، والثاني لن يكون بمقدوره سوى التهام الصفحات المتآكلة، نتيجة رداءة الطباعة والترجمة في النسخة المزورة.

أسئلة دون أجوبة.

انخفض عدد العناوين الصادرة، لدى أغلب دُور النشر النشطة في السنوات الأخيرة، بنسبة تتجاوز60 بالمئة، واتجهت إلى إصدارت تختص في التصوف وكلاسيكيّات الأدب العالميّ، كتبٌ ليست بحاجة إلى حقوق، ويطرب لها القارئ حتى يومنا هذا.

هل لأنّنا أصبحنا في حقبةٍ موازية لحقبة الاستبداد الأوروبي، بين الحربين العالميّتين، وما زلنا ننهل من تلك الكلاسيكيات التي أصبحت تراثًا للشعوب التي كتبتها؟ لماذا أصبح العالَم الذي تُترجمه أغلبُ دُور النشر، يغني في فلكٍ آخر، ونحن ما نزال نعيد إنتاج ديستوفسكي وتولستوي وغوته وأورويل، بخمسين ترجمةٍ ومئة غلافٍ وألف تقديمٍ؟

لماذا تنتشر اليوم كتب التصوّف مثلًا التي ازدهرت في خمسينيّات القرن الماضي؟

وما هي أكثر الإصدارات التي تلقى رواجًا لدى دُور النشر السورية في الحرب؟

ما حجم حضور الكتاب السوري في المعارض العربيّة؟

أسئلةٌ كثيرةٌ كانت برسم دُور النشر للإجابة عنها، بغية معرفة وكشف أقرب للكتاب السوريّ؛ من صناعته ومعوقات نشره وتوزيعه، وما يترتبُّ على تلك الدُور اليوم من إعادة النظر في خططها لمواجهة الترديّ الثقافيّ الذي تعايشنا معه.

ربما، علينا أن ننتظر جيلًا آخر من الناشرين، يأخذ هذه الأسئلة على محمل الجدّ، ويمدُّ يدهُ إلى عصب المشكلة، محاولًا كمثقف أولًا وكمسؤولٍ ثانيًا، أن يقوم بدور الكتاب الذي يطبعه، كحدثٍ تنويريٍّ مفصليّ، خارج مفهوم السوق ومتطلباته.




المصدر