سورية رهينة العسكرة


هوازن خداج

حلم التغيير وإقامة نظام سياسي ديمقراطي حداثي يحترم الحقوقَ ويعزّز سيادة القانون الذي طمح السوريون لتحقيقه؛ فتح الهوّة القاتلة للصراع، بين مبادئ حرية منشودة وديكتاتورية متجذّرة بَنَتْ سلطتها على بروباغندا عنفية، ودأبتْ على فرض العسكرة بثقافتها وسلوكياتها وأساليب تفكيرها على المجتمع السوري ككل، ومنعت منظماتِ المجتمع المدني والمنظمات المعرفية والثقافية من أخذ مكانها الموازي والموازن لمنظومة العسكر التي نجني ثمارها المسمومة الآن.

مشكلات متنوعة عاشتها الدولة السورية، في عمليات التنمية والنهوض والفقر والبطالة وغيرها من الإشكالات، لكن أكثرها أثرًا وانعكاسًا سلبيًا هي العسكرة التي شكّلت منظومة فكرية، تطال كافة مفاصل المجتمع السوري والدولة بسائر مؤسساتها، وتخضعها لقرار المنظومة العسكرية تخطيطًا وتنفيذًا، وقد اتخذت مبرراتها في الاستعداد لمواجهة الخطر الصهيوني، لكنها عملت على إحكام السيطرة على أفراد المجتمع وتنظيمهم، بغية تحقيق خضوعهم الكامل وسهولة انقيادهم. عسكرة المجتمع لا تقتصر على وجود “الجيش” كمؤسسة واجبها الرئيس والمقدّس هو الدفاع عن البلد أرضًا ومجتمعًا، إنما في تغليب الأيديولوجيا العسكرية في أنماط الحياة العادية، بغية تأهيلها للخضوع للماكينة العسكرية ومنظومتها المتدّخلة في جميع نواحي الحياة، وقد تجلّت في نقاط عديدة أهمها:

أولًا: إلباس المجتمع لباس العسكر وتنميط سلوكه إلى سلوك عسكري يختلف عن الطابع المدني؛ إذ اعتاد التلاميذ، في مراحل تعليمية مبكرة، على طقوس العسكرة “الفتوّة”، والتوجّه إلى المدرسة بملابس العسكر، وحضور حصصٍ درسيةٍ مخصصةٍ للتربية العسكرية، والخوض في مخيمات التدريب العسكري في المرحلة الثانوية والجامعية، وهي أمور ساهمت في تحويل المدارس إلى ثكنات عسكرية لفترات طويلة، ونهاية الزيّ العسكري في المدارس لم تنهِ العسكرة الفكرية وشعاراتها المتعددة كالدفاع المشترك، والصمود والتصدي وغيرها من الأمور التي ساهمت في عسكرة الأجيال الصاعدة وتدجينها.

ثانيًا: التجنيد الإلزامي للشباب مدة سنتين على الأقل، بعد إنهاء مرحلة التعليم التي كانت -وما تزال- كابوسًا ثقيلًا على الشباب السوريين؛ بما تشكّله من حالة استعباد وإذلال للفرد، وإخضاع لأساليب تعسّفية مهينة تطبّق كجزء من بناء منظومة الجيش، وما يرافقها من قلّة المردود المادي الذي لا يعوّض المجنّد عن فقدان العمل الحقيقي وممارسة ما تعلّمه في فترة الدراسة والتواصل المدني والاحتكاك بالمجتمع بطريقة طبيعية. فترة التجنيد الطويلة سابقًا صارت مفتوحة حتى الموت، وتزداد قوانينها حصارًا لتطال حالات معينة ممن كانوا مشمولين بعفو سابق، وسبيل النجاة منها هو الفرار خارج سورية، فبدل أن يكون انخراط الشباب طوعيًا في خدمة الوطن عند وجود تهديد حقيقي، صارت تشبه ما كان في عهد حمورابي “سادس ملوك بابل” الذي جعل الخدمة العسكرية إجبارية على المواطنين، تحت مصطلح (الذهاب في حملة الملك) والبقاء في الجندية حتى الموت أو انتهاء الحملة.

ثالثًا: تقديم الجوانب العسكرية والأمنية ووضعها، على امتداد السنوات السابقة، في المرتبة الأولى، ورفع مكانة العسكريين وقيمتهم، لتكون بديلًا عن الجوانب التثقيفية والقانونية والاقتصادية ومؤسسات المجتمع المدني؛ ما دفع الكثيرين في البيئات الفقيرة والأرياف إلى التطوع في الجيش أو إيجاد فرص العمل داخل السلك الأمني والعسكري طلبًا للمال والسلطة، باعتبارها الطريقة المثلى والأسرع للارتقاء في السلم الاجتماعي والسياسي، خصوصًا مع إعطاء صلاحية أكبر للقادة العسكريين، كتعيينهم “محافظين” وتطبيق النسق العسكري في الإدارة المدنية؛ الأمر الذي كرّس الكثير من مظاهر التخلّف فيها، نتيجة عدم خبرة العسكر في هذا الجانب الحيوي من حياة المجتمعات، وهو الذي يتطلب مسبقًا إعداد العاملين بعد دراستهم التخصصية لتلقّي مختلف العلوم الإدارية والقانونية.

هذه العسكرة للمجتمع السوري تركت العديد من التداعيات على بنية المجتمع ككل، وأخطرها التراجع الكبير والواضح لهيبة القانون والدستور والقضاء المستقل، مقابل الشخصية العسكرية والوظائف الأمنية عمومًا، وشيوع ثقافة الترهيب بالمنصب الأمني والاستقواء بالأقرباء من الأجهزة الأمنية، نتيجة لعدم معاقبة القيادات الأمنية ومحاسبتها، في حال تجاوزها على المواطنين حتى لو خرقت تلك القيادات القوانين والأنظمة، وتثبيت سيادة ثقافة العنف والتبعية في سلوك أفراد المجتمع عمومًا ورغبة الظهور بمظهر الأقوى والالتجاء إلى استخدام القوة في حلّ أغلب المشكلات حتى بين أفراد الأسرة الواحدة، والتي تحاكي المخزون الشعبي الواسع الذي ورثته هذه الشعوب من المجتمعات الزراعية الرعوية، وتتواكب مع السلطة الدينية في كافة تجلياتها المعزّزة لحالة الخضوع الفردي التام للجماعة، وتمنع الإحساس بالتميّز والاستقلالية والمطالبة بالحقوق، وتؤدي إلى ابتعاد المجتمع عن الطابع المدني واندفاعه نحو الطابع التقليدي المتعصّب والخضوع لنمطية التبعية للأقوى، وتستمر ضمن متواليات أكبر تحدّدها التيارات الفكرية السائدة فيه، سواء كانت تيارات دينية أو سياسية، فضلًا عن ترسيخ مبدأ الولاء للشخصية بدلًا عن مبدأ المواطنة.

التاريخ الطويل من استخدام التعبئة العسكرية للمجتمع، على المستوى التنظيمي والتعبوي والفكري، ومصادرة الحريات أدّت إلى نمو الوعي الفردي في بيئة مبرمجة على عدائها للحرية، وقَولبت الحياة وفقًا لمعايير التراتبية المبنية على الاستعباد، ونسفت جذور الديمقراطية التي ارتبطت على الدوام بالقوى المدنية؛ وبذلك أصبح السلاح والعنف المسلّح هو الطريق المفضّل للوصول إلى السلطة والمشاركة في الحكم، فكثير من الحركات السياسية التي نشهدها الآن تعتمد على سياسة (حارب في الميدان وفاوض في المنصة)، وتمارس طقوس العسكرة المجتمعية في مناطقها؛ الأمر الذي جعل الدولة السورية في حلقة مفرغة بين العسكرة الميليشياوية والتدهور، والتي لا يمكن الخلاص منها سوى بتعزيز قيم العدالة الاجتماعية والديمقراطية على أسس جديدة وثقافة جديدة في التسامح ونبذ العنف وإشاعة ثقافة القانون، كطريق للنهوض من حطام الحرب وويلاتها.




المصدر